يتمثل لي الإمام الشافعي حين أدرس سيرته، عملاقا نحيلا، ضامر الجسد، مقبول الطلعة، على الرغم مما قيل عن ملامحه. . فليست الملامح في الحق هي كل شئ. . وقد تبدو غير متسقة، ولكن يبرز من ورائها (روح) صاحبها غاية في القبول والتقدير عند من يتصل به.
وأرى فيه مظهر الرجل الذي يصفه علم النفس الانطوائي. .، وكل الرجال الذين احتضنوا الأفكار والدعوات والمذاهب، كانوا من هذا الصنف
وقد عرف الشافعي بأنه يحب العزلة أحيانا، ويلجأ إلى الصمت أحيانا، وأنه يمكن لنفسه بذلك من التأمل والدرس والمراجعة وهي عدة الفقيه والداعية.
وأتاح له هذا الجسد النحيل، القدرة على السفر والرحلة واحتمال مشقة الانتقال بين العراق ومكة واليمن ومصر.
ولد في مكة، ورحل إلى المدينة، ثم سافر إلى اليمن، ثم حمل إلى بغداد، ثم عاد إلى مكة. . . وقصد إلى بغداد ثم إلى مصر، حيث أقام فيها بقية حياته. .، وقد أتاحت له هذه الرحلة، وهذا التنقل المتصل، خلال هذه المنطقة التي كانت تعد في ذلك الوقت قلب العالم الإسلامي، فرصة واسعة لدراسة طبائع الناس وأخلاقهم ومعرفة مصالحهم واتجاهاتهم، وفهم الحياة ومشاكلها وقضاياها.
وقد أنضجت الرحلة ذهن الشافعي وتفكيره، وأمدته بقوة سيكولوجية رائعة، وأتاح له ذكاؤه المتقد، وقدرته العقلية الجبارة، مرونة ولباقة جديرين بالتقدير. فهو قد غير مذهبه، الذي وضع أصوله في العراق، حين استقر في مصر، ووضع بدلا منه مذهبه (الجديد) الذي ضمه خلاصة تجاربه وملاحظاته ودراساته خلال تلك الفترة الطويلة التي قضاها متنقلا في الأقطار الإسلامية. .، وكانت تجارب الأئمة والفقهاء الذين التقى بهم، وقرأ لهم، قد تبلورت في نفسه، واستقرت، فاختار منها ما رآه صالحاً مع البيئة الجديدة التي أستقر فيها.
وإذا كان يقال أن أبا حنيفة قد شرع بروح العراق، وان مالكا قد شرع بروح الحجاز، فإن الشافعي قد شرع بروح مصر. ويكاد الشافعي إلى ذلك أن يكون رابطة العقد بين فقهاء عصره، فلقد ولد في العام الذي مات فيه أبو حنيفة، وتلقى العلم على مالك في المدينة،