كأنما تفتح عقل الزهاوي قبل أن يتيقظ هواه، وحلق فكره قبل أن ينهض خياله، وأدرك علمه قبل أن يولد شعره! فلقد كان يهدف للثلاثين من عمره وليس له من أولمب الشعر وحي، ولا في بَرْناس الشعراء محل؛ إنما كان في صدر شبابه ينظر في العلوم الفلسفية والطبيعية؛ وسبيله إلى ذلك ما تُرجم من المقالات في الكتب والمجلات، لأنه لم يعرف من اللغات غير العربية والفارسية والتركية والكردية، وكلها لا تصل فكر الإنسان بالتطور، ولا تنقع غلة الظمآن إلى المعرفة. ومع ذلك استبطن الزهاوي دخائل هذه العلوم بعقله النافذ حتى ألف كتاب (الكائنات) في الفلسفة، وكتاب (الجاذبية وتعليلها) في الطبيعة، ذهب فيهما مذهباً خالف به أقطاب العلم وجهابذة النظر، كقوله: إن علة الجاذبية ليست جذب المادة للمادة، وإنما هي دفعها لها بسبب ما تشعه من الإلكترونات. وسواء أنهض دليله أم دحض فإنه يدل على النظر الثاقب والفكر المستقل. ورجاحة عقله هي التي حملته وهو في ربيع العمر على أن يشرف على ظواهر الكون وحقائق الوجود من سماء فكره لا من سماء خياله؛ والمعهود في عامة الشعراء أن يكونوا على النقيض من ذلك. فلما هيأته الأقدار الجميلة لرسالة الشعر كان فكره أقوى من خياله وأسمى من عاطفته؛ والفكر والخيال والعاطفة هن ملكات النفس الأدبية الثلاث، يصدر عنهن فيض القريحة، ويَرِد إليهن إلهام العبقرية؛ ولكن الشعر لا يهيمن عليه إلا الخيال والعاطفة؛ أما حاجته إلى الفكر فمحدودة بمقدار ما يضيء لهما الطريق حتى يأمنا الضلالة. فالفكر للعبقرية بمثابة العين، والخيال والعاطفة لها بمثابة الجناحين. فإذا تغلبا عليه كان الشرود والزيغ، وإن تغلب عليهما كان الجفاف والعقم؛ ومن هنا جردوا أكثر ما قال أبو العلاء وأقل ما نظم أبو الطيب من الشاعرية. والزهاوي شاعر من شعراء الفكرة، له البصيرة الناقدة والفطنة النافذة، وليس له الأذن التي (تموسق) ولا القريحة التي تصنع. فاللفظ قد لا يختار، والوزن قد لا يتسق، والأسلوب قد لا ينسجم، ولكن الفكرة الحية الجريئة تعج بين الأبيات المتخاذلة عجيج الأمواج المزبدة بين الشواطئ المنهارة.
الزهاوي عقلية أفاقة وحيوية دفاقة وطبيعة ساحرة؛ وهذا التوثب الحماسي فيه هو الذي