جعله يؤثر النظم في تقييد خواطره. وهذه الحماسة قد تنفك أحياناً عن الفكرة لكلالها أو ابتذالها، فيذهب الشاعر، ولا يبقى الفيلسوف، ويكون الزهاوي معك كالآلة تدور مليئة متزنة ما دامت على شيء، فإذا نفذت مادتها على فجأة انطلقت تدور على الفارغ سريعة مضطربة، ذلك لأن الفكرة الفلسفية هي المادة الأصيلة في شعر الزهاوي. وليس الشعر كله فكرة. وإنما هو فضلاً عنها صورة يرسمها الخيال، وشعور تبعثه العاطفة. على أن فكرة الفيلسوف واضحة، وجمالها في هذا الوضوح وفكرة الشاعر خفية، وسحرها في هذا الخفاء. فإما أن تدرس الطبيعة لتعرفها وتشرحها فتكون صاحب فلسفة، وإما أن تدرسها لتقلدها وتصورها فتكون صاحب شعر. أما الخلط بين الفلسفة والشعر لأن الشاعر يدرس ظواهر الكون، فكالخلط بين التصوير والتشريح لأن المصور يدرس بواطن الجسم.
كان الزهاوي كشوقي حريصاً على متابعة العصر ومسايرة التطور؛ ومنشأ هذا الحرص فيهما طبع مرن يطلب التجدد، وحس مرهف يأنف التخلف. ويزيد الزهاوي أن الفخر يزهاه، والتيه يذهب به، فيحب الثناء ويبغض النقد. فهو لفَرَقه من صفة القدم يسبق الشباب إلى التجديد، ولنفوره من معرة الجمود يذهب بالرأي إلى التطرف، ولطمعه في نباهة الذكر يجاري ميول الخاصة ويعارض هوى العامة. ومن ثم كان أكثر شعره تشنيعاً على الاستبداد بمهاجمة أهل الحكم، وزراية على الجمود بمحاربة أهل الدين، وتحقيراً للتأخر بمصادمة مألوف الأمة.
والزهاوي بعد هذا وفوق هذا كان رسولا من رسل الفكرة الإنسانية، وبطلاً من أبطال النهضة العربية. كان يهزج بأغاريد الفجر على ضفاف دجلة فتتردد أصداؤها الموقظة على ربوات بَرَدى، وخمائل النيل، وسواحل المغرب. وأدب الزهاوي وأمثاله هو الذي وصل القلوب العربية في مجاهل القرون السود بخيوط إلهية غير منظورة، حتى استطاعت اليوم أن تتعارف وتتآلف وتتحالف؛ ثم تسعى لتعود أمة كما كانت، وتقوى لتصبح دولة كما يجب أن تكون.