شعلة متوهجة تقدح الشرر، ولهب حار تتراقص فيه النيران، وسيل جارف تتدفق منه الأمواه: تلك هي ملحمة نيتشه الفلسفية الرائعة!
إنها شعر دافئ ينبض بالحياة، ولحن ثائر يزخر بالقوة، وموسيقى صاخبة تفيض بالنشوة. . . هي فلسفة حية نبعت من قلب الوجود، وسرت في دماء صاحبها حارة فائرة، ثم تدفقت على لسانه عاصفة هوجاء تهدر وتزفر! ولكنها فلسفة قد شاقها الأفق البعيد، واستهواها النجم القصى، فلما حلقت بجناحيها كالنسر في أجواز الفضاء، وأشرفت على الوجود من قبة السماء، لعبت برأسها نشوة العلو، فتضاءل الوجود في عينيها المشدوهتين، وتصاغر الكل تحت جناحيها المنشورين!
. . . أجل، إن في شعر نيتشه سحراً غريباً يستأثر بالخيال؛ فإن الصور والمشاهد تتابع فيه كالرؤى والأحلام، والنفس تتنقل معه كأنما هي في رحلة رومانتيكية رائعة في بلاد ساحرة فاتنة: تمر بها المشاهد الأليمة المرعبة، بعد المشاهد السارة المبهجة، ويطوف بها الغريب المضحك، بعد الجليل الرائع؛ ولكن الأمر الوحيد الذي يفسد على الإنسان كل ما في نيتشه من الجوانب الوجدانية المستحبة، ويدفعه إلى النفور منه والعزوف عنه، هو تلك الكبرياء المتعالية التي اصطبغت بها فلسفته، وذلك الغرور المتطرف الذي اتسمت به أحكامه. . .
كان نيتشه يعتقد أنه نسيج وَحْدِه، ولذلك فقد اتخذ في كل مؤلفاته موقف فاوست المتمرد ذي النزعة الرومانتيكية، وثار معه على كل قانون، وكل أخلاق، وكل حياة اجتماعية. ولما تضخمت عنده شخصيته، أصبح ينظر إلى ذاته على أنها مركز للعالم كله، لا بل أستغفر الله، على أنها تستوعب العالم كله وتضمه تحتها! فإذا قال نيتشه بفكرة، فقد وجب ألا يكون أحد قد سبقه إلى تلك الفكرة؛ وإذا أصدر نيتشه حكما، فلا بد أن يكون هذا الحكم صحيحاً، ولو أجمعت الإنسانية كلها على أنه غير صحيح!. . . لقد عاشت الإنسانية على قيم فاسدة وشرائع كاذبة، فلابد من أن يأتي نيتشه بلوحة جديدة للقيم يقضي بها على كل تلك الأوهام