والخرافات التي ظلت الإنسانية تحرق لها البخور طوال حياتها! أليس نيتشه هو مسيح العصر الحديث الذي اعتقد في نفسه أنه أعظم رجل أنجبه عصره؟ ألم يقل نيتشه إن الثورة الفلسفية التي سوف تحدثها آراؤه، ستكون نقطة البدء لانقلاب هائل يحل بالإنسانية كلها؟ ألم يعتقد نيتشه أنه حطم شريعة المسيحية ووضع حداً لقيمها الكاذبة ومعاييرها الخاطئة؟ إذن فليس من حرج عليه إذا قال بملء شدقيه:(إن الناس تخطيء الحساب، إذ تعتبر بداية التاريخ، ذلك اليوم المشئوم الذي بدأت به المسيحية. أجل، لماذا لا تكون بداية التاريخ هي نهاية المسيحية؟ إذن فلنحسب القرون والأجيال، ابتداءً من اليوم، فإن يومنا هذا هو يوم تحول مطلق للقيم والمعايير كلها)!
هكذا قال صاحب لوحة العهد الجديد، الذي آمن بالأرستقراطية المتطرفة، وانتهى به غروره إلى قمة الجنون الباردة وليس بدْعا أن يعتقد نيتشه في نفسه أنه مسيح العهد الجديد، فقد خيل إليه أن شريعة المسيح قد تهدمت على يديه، وأن عليه هو أن يقدم للإنسانية شرعة جديدة يقيم بها بناء القيم من جديد! وقد قارن نيتشه بين نفسه وبين المسيح، وقدم نفسه في كتابه:(هاهو ذا الإنسان!): باعتبار أنه المسيح الجديد! وحينما كان الجنون قد أخذ يتسلل إليه، نراه يوقع خطابه الأخير إلى (براند يس) بإمضاء (المصلوب)! وليس من عجب أن يعتقد نيتشه ذلك نفسه، فقد توهم أن العمل الذي قام به في عالم الأخلاق والفلسفة، عمل فريد لم ينهض به أحد من قبل. . . وأما مؤلفاته فقد اعتبرها من قبيل ذلك الوحي الذي يجيء به الأنبياء المرسلون، وأن كانت تختلف عنه في أنها وحي صادق لم تموهه الأكاذيب والأساطير! وتبعاً لذلك فقد تحدَّث نيتشة عن كل كتاب من كتبه، باعتباره حدَثاً هاماً بالنسبة إلى العالم كله؛ ووسم واحداً من هذه الكتب باسم (الفجر)، ظناً منه أنه هو فجر اليوم الجديد الذي طلع على العالم بأسره!
وحينما نظر نيتشه إلى عالم القيم ألفي أن النقد السائد فيه نقد زائف بهرج، فأعلن بقوة وحماسة أن الوقت قد حان لتغيير مادة ذلك النقد وصورته معاً. . . أجل، إن الإنسانية قد أخطأت حتى الآن في كل قيم الحياة التي اتخذتها لنفسها، فلابد من أن يأتي مشرع هذا العصر، فيقدم لها صورة صادقة للحياة الوحيدة التي يمكن أن تكون جديرة بأن يتحمل المرء في سبيلها مرارة العيش! وقد نادى نيتشه بقيم الحياة الجديدة، ثم هتف في نشوة