والحق أن اللغة العربية هي صاحبة المصاب الأول في هذا الرجل، لسبب بسيط وهو أن اللغة العربية لم تعهد مؤلفاً بهذه القوة، وكاتباً بهذه الأصالة في ميدان العلم الخالص. وهذا الجانب النظري في العرض العلمي، ناقص عندنا إلى حد يعيب المكتبة العربية، وتبدو حاجتنا واضحة في هذه الأيام إلى الكتابة التفصيلية عن العلوم من أجل سد الفراغ الهائل الذي نراه في المؤلفات والعقليات على السواء. . وإذا كانت مصر قد أحبت هذا الرجل، وإذا كانت قد بكت البكاء المر حينما انتقل إلى جوار ربه، فلأنه كان يملأ ركناً يعز على الجميع أن يروه شاغراً، ويشتغل بمهمة لا يقوى على القيام بها سوى أفراد قليلين.
مات مصطفى مشرفة بعد أن ترك لمصر مجداً أي مجد، وبعد أن شرفها باسمه وعمله وبحوثه جميعاً، وإذا عرفت قيمة العلم والعلماء في مصر ومدى ما نحن فيه من نقص وقصور وذكرت حالتنا العقلية بوجه عام فستعلم آنئذ من هو مصطفى مشرفة، وستدرك مدى الخسارة في هذا الرجل، إذ على الرغم مما نحن فيه من تأخر وجمود علمي في كلا الجانبين، النظري والعملي، بزغت هذه العبقرية النافذة وأطلت على العالم بصورة فذة حقاً وخرجت إلى الناس على نحو غريب.
وهو أول من أحس بهذا الضعف الشامل في نواحينا العلمية أول من أخذ يستصرخ الحكومة والأهالي من أجل العناية بهذا الجانب الذي يمكن أن يأتي لنا منه الخير الكثير أو الذي لا يمكن أن يأتي لنا خير من سواه. أنظر إليه مثلاً حينما يقول بصدد العلم والصناعة (فالصناعة بأوسع معانيها تشمل موارد لثروة الأهلية من معدنية ونباتية وحيوانية بل وإنسانية أيضاً كما تشمل استخدام القوى الطبيعية وتسخيرها لخدمة الأمة وراحتها ورفاهيتها ولم يعد من الممكن في العالم الحديث أن يترك هذه الأمور للصدف أو للجهود الفردية، بل يجب على الدولة أن ترسم سياسة إنشائية في تنمية الثورة الأهلية، وهذه السياسة لا يمكن أن تبنى على الحدس والتخمين أو على الجدل والخطب السياسية، بل إن قوامها دراسة الحقائق وإجراء التجارب والبحوث العلمية. ولو أننا استطعنا عن طريق