كنا في (أوتيل مكة المكرمة)، ذلك القصر الفخم، الذي كان للشريف عدنان حمى منيعاً، وحصناً حصيناً، يهاب الجبابرة الدنو من بابه، وتخشى الطير التحليق في سمائه، ويتجنب الناس النظر إليه إلا نظر الخائف الحذر، لأنهم يعلمون أن الكلمة متى خرجت من فم صاحبه كانت كسهم القضاء، من أصابت أصمت، وأنه ليس بين أحدهم وبين أن يقتل أو يدفن حياً في جب القصر المظلم، أو تهب أمواله، أو تحرق دوره. . . إلا أن يشي به إلى الشريف واش، أو تصيبه عرضاً نقمة من نقماته!
وكنا في الردهة الكبرى التي بناها فأجاد بنيانها، وزخرفها فبالغ في زخرفها، حتى كانت تحفة من التحف، وآية من آيات العمران، نعجب من تصاريف القدر، وأحداث الزمان: كيف ذهب الملك، واندثر السلطان، وغدا الشريف الجبار، الذي كان يتبختر في ثياب الوشي، وأردية الديباج، وتمشى أمامه العبيد بالسيوف، والخدم بالمجامر، ويسير وراءه الوجهاء والأعيان. . . كيف غدا بعد هذا الجمال الناظر، عظاماً نخرة، في حفرة مقفرة، وكيف استبدل بالقصر الكبير، هذا القبر الحقير، وكيف ذهب المال والولد، والخدم والعبيد، والحجاب والأعوان، والعداء الأخوان، ومات الحب والبغض، والخوف والرجاء. . . حتى لكأنما لم يمر يوماً سيد مكة وجبارها، وكيف ورثنا القصر أياماً وليالي نطؤه مطمئنين، وننام فيه آمنين، ونأمر فيه مطاعين، لا نذكر صاحبه وبانيه، ولا نقيم له وزناً، ولا نحسب له حساباً!
كنا جالسين مع إخواننا رجال الوفد السوري، نتحدث أن لا بقاء للإنسان. وأن لا خلود في الدنيا، وأن الأيام دول، والدهر دولاب، فكم من عزيز قد ذل، ومن ذليل قد عز، ومن ملوك كانوا أعز من النجم، وأمنع من السحاب، ضاعوا وضاعت ذكراهم، فلا يغرن امرؤ بالدنيا:
فما الدنيا بباقية لحي وما حي على الدنيا بباق ولا يدخرون وسعاً في كسب الذكر للدنيا والأجر للآخرة، فما الحياة إلا حياة التاريخ، وحياة الجنة. . .
وكنت لا أني أسأل عن (الرسالة)، وألح على مدير الأوتيل وهو من المشتركين فيها، أن يأتيني بالأعداد الأخيرة منها، وقد كنت في دمشق إذا تأخرت (الرسالة) يوماً قلقت من