تأخرها، وأشتد شوقي إليها، فكيف وقد مرت أربعة أعداد لم أرها؟ صدرت ونحن على هامش الحياة، من وراء حدود العالم، نسير في الصحراء سبعة عشر يوماً من دمشق إلى المدينة، لم نر فيها إلا ثلاث قرى، مالقينا من دونها بشراً ولا شجراً، ولا وحشاً ولا طائراً، وما أبصرنا إلا سلاسل الجبال، وتلال الرمل التي تتعاقب لا حد لها، فتانة متموجة، كأنها قد مرت عليها يد نقاش صناع، سبعة عشر يوماً، ملأت فصلاً طويلاً من سفر حياتي، بأعمق الشعور، وأشد العواطف
فلما جاءني خادم الأوتيل بأعداد الرسالة، أقبلت أصفحها وأقرأ من كل مقالة عنوانها، فرابني منها عنوان مقالة، ما إن قرأتها حتى سقطت الرسالة من يدي وعرتني رجفة وأحسست أن قد دبر بي خبر هائل تصدع له القلوب، قلوب المؤمنين حزناً وألماً، وتندى له الجباه حياء وخجلاً، وتكل عن وصفه الألسنة دهشة وتفظعاً
ذلك إن الجمهورية التركية، لم يشف غيض قلوبها، كل ما صنعته بالإسلام، وما أنزلته بأهله، فعمدت إلى بيت من بيوت الله، تقام فيه شعائر الله، فجعلته بيتاً للأصنام، ومثابة للوثنية، أماتت فيه التوحيد، وأحيت فيه الشرك، وطمست منه آي القرآن، وأظهرت فيه الصور والأوثان، لم تضق بها الأرض حتى ما تجد مكاناً لمتحفها هذا إلا المسجد الجامع، ولكن النفوس الملحدة ضاقت بهذا المسجد، وأحس أصحابها كأن هذه المآذن في عيونهم، وكأن هذه القبة على ظهورهم، وعشيت أبصارهم من نور الله، فأرادوا ليطفئوه بأفواههم، ويمنعوا مساجد الله أن يذكر فيها أسمه، فعطلت الصلاة في أيا صوفيا فلا تقام فيها بعد اليوم - وسكت المؤذن فلا يدعو في مآذنها إلى الله - ولا يصدع بالتهليل والتكبير، ونأى عنها المؤمنون فلا يدخلونها إلا مستعبرين باكين، يندبون فيها مجد الإسلام، وعظمة الخلافة، وجلالة السلطان، وذل فيها المسلمون وصاروا غرباء عنها وهم أصحابها وأهلوها، وعز فيها المشركون، وشعروا أن أيا صوفيا قد ختمت فيها صفحة الإسلام، باسم هذا الـ. . (أتاتورك) كما فتحت باسم (محمد الفاتح)!
أيا صوفيا التي صيح في مآذنها خمسين وثلاثمائة واثنتين وسبعين وثمانمائة (٨٧٢٣٥٠) ألف مرة: حي على الصلاة، حي على الفلاح. الله أكبر الله أكبر. . . لا إله إلا الله، فاصطف فيها المسلمون خاشعة أبصارهم مؤمنة قلوبهم، ساكنة جوارحهم، قد وضعوا الدنيا