ما إن فرغت من قراءة تعليقك على رسالتي إليك؛ تلك الرسالة المنشورة في العدد (٩٠١) حتى سيطر عليّ شعور غريب لا أملك له دفعا، ذلك لأن تعليقك كان عميقا كأشد ما يكون البحر عمقا، وصافيا كأحلى ما يكون صفاء، متشعب النواحي ممتد الشعاب، يستجيب له القلب والقلم، ويتحفزان إلى الإجابة عن كل ناحية من نواحيه وكل شعبة من شعابه. . ولكنهما يحاران فيه حيرة تبعث على الصمت والإعجاب، والتفكير والاكتئاب!
١ - فهنا روح (ناهد) التي تطل علي من عالمها الآخر تشكر لي عاطفة نبيلة أملت علي أن أذكر أختا لي في الأدب والإنسانية ولدت مع الربيع وماتت مع الورد، وكانت حياتها (أقباساً من وهج اللوعة، وفنونا من عبقرية الألم، وخريفا لا يعرف طعم الربيع إلا من أفواه الناس)! لقد تحدث إليها قلبي وناجاها بياني في نفحات معطرة بالشكوى، مضمخة بالنجوى، هبت علي ذكراها من قصيدتي (قمرية تموت) المنشورة في العدد (٩٠٣) من الرسالة.
ولكن من يدري أن (ناهد) قد ماتت في (هجران) وأن (هجران) قد ماتت في (ناهد)، وأن (قمرية تموت) ما كانت إلا استجابة للحزن الصارخ الجازع الذي يبكي القلب حين يدفن فيه الحب، ويفزع إلى النحيب حين يغيب عنه الحبيب؟ فمن شؤمنا نحن معاشر الأحياء أن نموت فيمن نحب، وأن نتوزع على من ينأى، وأن يعيش معذبين مروعين على نحو ما تعيش الحمائم قد غالت فراخها النسور، وأودت بعشاشها الرياح!
٢ - وهنا الشاعرة (المجهولة) التي ظلمت فنها حين قضت أن يظل رهين المحبسين: القلب والدار. ماذا أقول لك يا أنور وقد أثرت بهذه الحقيقة الصادقة نوازع النفس ونوازي الروح، ودفعتني إلى الشعر دفعا فإذا بالنفس تنسكب حسرات، وبالقلب يترقرق عبرات، وإذا بقصيدتي (رهينة المحبسين) تمثل أمامي عبرة صافية، وأنة شافية؟ فإن استطاعت هذه القصيدة أن تصور حال الفتاة وقد أرداها مجتمعها الظالم في هوة فاغرة كالقبر موحشة كالعدم، ملؤها الحرمان والقنوط والسأم والملل، فلأنك وحدك الباعث على هذا التصوير