قرأت في الرسالة الغراء (٧٣٧) كلمة الأستاذ (الجاحظ): (الكاتب المنشئ والكاتب الحاسب) وما رواه فيها من قول للدكتور زكي مبارك. ولقد أنصف الأستاذ الجاحظ، وجار الدكتور مبارك - وإن لم يكن الظلم من شيمته - بما أراد أن يعطي (ابن الحريري) أكثر من نصيبه، وحسبه نصيبه. وفي (الإمتاع والمؤانسة) حديث عن تينك الصناعتين ورد فيه كلام لرجل اسمه (ابن عبيد) نبح في البلاغة والمنشئين والمعلمين والنحويين، وعظم وكبر صنعة الحساب. وقد فرفر أديبنا العبقري أبو حيان قائله فرفرة، وفند باطله، وأعلن من فضائل البلاغة والإنشاء ما أعلن وأغلب الظن أن صاحب (المقامات) اطلع على ذلك الحديث فنتش أشياء من معانيه ومن ألفاظه قال ابن الخشاب البغدادي في رسالته في نقد (المقامات):
(وقد كان ابن الحريري (عفا الله عنه) مكباً عليها، صارفاً مدة مهله فيها، ينقح فيها اللفظة بعد اللفظة، ويستشفها في كل لحظة، فهي بنت عمره، وبكر دهره. ولقد خطف أكثرها من مواضع، يدل تهديه إليها على فضل بارع. ولم يكن (رحمه الله) مدفوعاً عن فطنة ثاقبة، وغريزة في التلفيق مطاوعة مجاوبة)
ولن يقلل ذلك النتش من فضل (أبي محمد) ولن يصغر هذا الخطف من مقداره. يقول أبو حيان في كتابه:
(ولما عدت إليه (إلى الوزير) في مجلس آخر، قال: سمعت صياحك اليوم في الدار مع ابن عبيد، ففيم كنتما؟ قلت كان يذكر أن كتابة الحساب أنفع وأفضل وأعلق بالملك، والسلطان إليه أحوج، وهو بها أغنى من كتابة البلاغة والإنشاء والتحرير، فإذا الكتابة الأولى جد، والأخرى هزل).
(قال:. . . فما كان الجواب؟ قلت: ما قام من مجلسه إلا الذل والقماءة، وهكذا يكون حال من عاب القمر بالكلف، والشمس بالكسوف، وانتحل الباطل ونصر المبطل، وأبطل الحق وزري على المحق. . .).
ومما قاله أبو حيان لابن عبيد: وكفى بالبلاغة شرفاً أنك لم تستطع تهجينها إلا بالبلاغة،