ما كاد يبدأ عهد التدوين العربي في عصر الدولة الأموية حتى تبين أن هذه الحروف العربية وحدها ليست مغنية في ضبط الكلام. ولذلك أخذ الأمويون في ابتكار علامات للضبط توضع على الحروف، نفياً للخطأ، ورفعاً للبس. هذا والأمة العربية في جملتها يومئذ مستقيمة الألسن، صافية السلائق، فصيحة اللهجات.
ولقد بلغ من شعور الأقدمين بضرورة الضبط أنهم لم يكونوا يقتصرون على وضع العلامات المقررة، بل لقد كانوا يلجئون إلى التعبير في المواضع المهمة للكلمات التي يخشون عليها الالتباس. فيكتبون مثلاً أن الكلمة بفتح الحرف الأول وسكون الثاني وضم الثالث وكسر الرابع. وما بعثهم على ذلك إلا خوف التصحيف والتحريف، بل لعلهم خشوا أن تذهب علامات الضبط، أو أن يستثقل النساخ نقلها، فأرادوا تسجيلها بالتعبير. وليس أبلغ دليلاً عن هذا على رهافة شعورهم بنقص الحروف العربية وحدها في الأداء، وبقيام الحاجة إلى ضبط الكلمات ضبطاً لا لبس فيه.
فأما نحن فإننا في مستهل نهضتنا الحديثة، حين بدأنا نتخذ الطباعة وسيلة للتدوين، اكتفينا بالحروف العربية عارية عن علامات الضبط للكلام.
فهل مبعث ذلك أننا عددنا أنفسنا عرباً أقوى سلائق من العرب الخلص في العصر الأموي، وأقدر منهم على قراءة ما يكفي بالحروف العربية غير مضبوطة؟
كلا، فإنه لا خلاف على أن قراءة الكلام غير المضبوط قراءة صحيحة، أمر يتعذر على المثقفين عامة. بل إن المختصين في اللغة الواقفين حياتهم على دراستها، لا يستطيعون ذلك إلا باطراً اليقظة، ومتابعة الملاحظة. وإن أحداً منهم إذا حرص على ألا يخطئ، لا يتسنى له ذلك إلا بمزيد من التأني، وإرهاف الذاكرة، وإجهاد الأعصاب.
لم يكن مبعث اقتصارنا في الطباعة على الحروف العربية دون ضبط أننا وجدنا فيها غنية