وكفاية، وإنما كان مبعثه أن أوضاع الكتابة العربية يصعب معها إدخال علامات الضبط في المطابع فلم يتح لهذه العلامات أن تأخذ مكانها على الحروف المطبعية إلا في أحوال قليلة، وضرورات خاصة.
وكان في مقدمة هذه الضرورات والأحوال بعض الكتب المدرسية الخاصة بمواد اللغة العربية، مثل كتب النحو والمطالعة فطبعت مشكولة لاستعمالها في المدارس، ولكن كان لذلك أثر سيئ، فقد أشاع بين المثقفين شعوراً نفسياً نحو هذا الشكل شعور استعلاء عليه، وأنفة منه؛ إذ توهم الكبار أن الضبط لا يكون إلا للصغار، وأنه للتلامذة دون الأساتذة، وأن الكتب المدرسية هي وحدها التي تظهر مشكولة، وعار أن تضبط الكتب التي توضع بين أيدي المثقفين الذين فارقوا مراحل التعليم. فمن قدم لمثقف كتاباً مضبوطاً فقد أساء الظن به، وعزا إليه تهماً الجهل بأوضاع اللغة، وقواعد النحو والصرف.
وجلي أن هذا الشعور النفسي نحو الشكل شعور وهمي لا أساس له، ولا حق فيه؛ فهو لون من ألوان الغرور يتواضع عليه الناس. وأولئك هم الناطقون باللغات الأجنبية من فرنسية وإنجليزية وطليانية وغيرها، لا يكتبون كلامهم إلا مضبوطاً أتم ضبط، ولغاتهم على وجه عام لغات كلام وكتابة معاً، فهم بها أبصر، وهي عليهم أيسر، وسلائقهم فيها أدعى إلى الاستغناء عن الضبط إن أرادوا أن يستغنوا عنه. ولكنهم يلتزمون الضبط فيما يكتبونه، لا يعولون على علمهم باللغة، ومرانتهم على القواعد، وانسياق ألسنتهم إلى الصواب.
فأول ما يجب أن نؤمن به، هو أن كتابتنا العربية غير المضبوطة، كتابة ناقصة، وأننا نعبر بها عن غرور نفسي، وأن هذا الغرور يخفى بين ثناياه عجز الغالب منا على القراءة الصحيحة، وفقاً لقواعد اللغة وأوضاعها. فنحن بهذه الكتابة الناقصة نرضي غرورنا، وإن كنا في حقيقة أمرنا نخطئ فيما نقرأ غير مبالين.
ولا غرو في أن يعجز العامة عن القراءة الصحيحة، وأن يجد الخاصة فيها صعوبة وحرجاً، فقد ذهبت عن العرب سلائقها الفصيحة منذ عهود وآماد، وأصبحت اللغة تؤخذ تلقيناً، وتكتسب تمريناً. إذ استقرت لنا لهجة عامية يجري بها على ألسنتنا مألوف الكلام، وهذه اللهجة تجانب لغة الكتابة الفصحى في خصائصها الواضحة، أعني الإعراب وما إليه مما يقتضيه الاشتقاق وتصريف الألفاظ والصيغ. فأصبحنا إذ أردنا أن ننطق بما نكتب،