(ازدادت دجلة يومي الأربعاء والخميس ٣، ٤ صفر ١٣٥٥ زيادة هائلة لم تكن منتظرة، وغدت بغداد عرضة للغرق بين كل لحظة وأخرى، وسيق الناس كلهم للعمل على إقامة السدود، ولم تغمض في بغداد ليلة الخميس عين. . . وكان شيء عظيم. . .)
كانت تجري في الوادي حالمة سكرى، غارقة في بحر من الحب والشعر، هادئة لا ترى فيها إلا آثار هذه القبل المعسولة التي تطبعها الشمس على وجنتيها الصافيتين كل صباح ومساء، تخطفها منها في غفلة من الطبيعة، فلا يبصرها إلا الشفق الذي يطل من نافذة الأفق يرميها بنظرة الكاشح الحاشد، فيحمر وجه دجلة الفتاة من الخجل. وتغمض عينيها من الحياء ثم تسرع في جريها. . .
وكانت تتلقى بين ذراعيها العاشقين المدلهين، كلما دجا الليل وأطفئ مصباح الكون، وهم في الزوارق ذوات الأجنحة البيض التي تشبه قلوبهم في بياضها وخفقانها، فتحدب عليهم، وتحفظ أسرارهم، وتمنحهم الخلوة الحلوة الآمنة، وتترع نفوسهم بالجمال والشعر، حتى يغيبوا عن الوجود في حلم فاتن بعيد. . .
وكانت تغضي عن هذا النخيل العاشق، وقد تعانق كل زوجين منه، وتلامسا بالشفاه، واستسلما إلى الغيبة الهنيئة، وعن هذه القصور التي تفيأت ظلاله، سكرى بخمرة الجمال، قد ضمت احناءها على حياة لذة وادعة، ملؤها الحب. . .
وكانت دجلة جمال العراق ونعمته وحياته. . .
وكننت أذهب كل مساء، إلى جسر مود، انحدر من الرصافة، أمشي في طريق ضيق، كأني أهبط وادياً منن أودية بلادي الحبيبة، ثم أصعد حتى أبلغ ضفة الكرخ، فأسلك شوارع الصالحية، حتى أصل إلى المطار. . . حيث أبقى ساعة شاخصاً إلى الأفق البعيد أتبصر فيه طيف موطني الأصغر وأتحسس نسمه فأشم فيه شذا الغوطة، وانشق ريا نشرها العطر، وعرف آسها ونسرينها، وفلها وياسمينها، وزنبقها ونرجسها. . . حتى إذا قضيت من ذلك وطراً، عدت وقد خلا الجسر، فحييت دجلة، وصببت في أذنيها آلامي وأحزاني، وأستمنحتها الراحة والاطمئنان، ثم مضت إلى وكري المنعزل، في (الأعظمية) بنفس هادئة