وذهبت في مساء الأمس، كما كنت أذهب، فإذا الأرض قد بدلت غير الأرض، وإذا الجسر الذي كان وادياً ننحدر إليه، قد أمسى جبلاً نتسلقه، وصار أعلى من الشارع وقد كان تحته، وإذا الناس يقبلون عليه، فأقبلت معهم وعلى وجهي من الدهشة والحيرة مثل ما على وجوههم من الروعة والفزع، ونظرت فإذا النهر الذي كان يجري في الأعماق هادئاً متطامناً حالماً، يبدو كأنه صفحة المرآة، لا تنداح عليه دائرة، ولا تموج فيه موجة، قد علا وارتفع وعاد ثائراً هائجاً فضاحا، له هدير ودردرة، قد علاه موج كالروابي. . . وإذا هو قد نسي سنه ووقاره. وأضاع حلمه وعلمه، ورجع شاباً مجنوناً أهوج، يقفز ويصرخ، ويقرع الأرض بقدميه، ويضرب بقبضته القويتين المخيفتين أبنية الشاطئ الآمن، ويعبث بهذه الكرات الحديدية الضخمة، التي أقيمت لتثبيت الجسر العائم والتي ترجح بالقناطير، وتزن الصخور الجلاميد، ويقذف بها هنا وهناك كما يقذف الصبي كرته. . . وإذا هو مرعب حقا، يدخل الروع على أجلد الرجال. . .
وكانت الوجوه كالحة، قد ارتسمت عليها سمات الذعر الشديد والماء يرتفع، لم يبق بينه وبين الشاطئ إلا شبر واحد. لقد بلغ عمق المياه خمسة وثلاثين متراً وعشرين معشاراً. . . وخمسين. . . إنه لا يزال يرتفع. . . لقد صاقب الشاطئ. . . إن بغداد في خطر!
وطارت كلمة الخطر على الألسنة، ففزع الشعب، واهتمت الحكومة، ووضع قانون المساعدة الإلزامية، فابتدر الناس الشاطئ، واستبقوا إلى العمل. . . يقيمون السدود، ويضعون للمجنون القيود، ولكن المجنون لا يبالي بقيد الذباب. . . إنه يقتل أمة منها بضربة واحدة. . .
إن النمر يقفز في حبسه ويثب، لقد جن: إنه يريد أن يخرج فينبعث في الأرض، يريد أن يمشي إلى هذه الجنات الظليلة، التي طالما أمدها بالحياة، وحمل إليها النعمة، ليحمل إليها الموت!
وبدأ الصراع المهول بين الطبيعة والإنسان. . . وأمسى المساء على بغداد وهي قائمة على قدم وساق، ليس فيها من يبيع أو يشتري أو يلهو أو يلعب، أو يطعم أو يشرب.،. ليس لها إلا غاية واحدة، هي النجاة من الغرق. . .