لقيت مرة صديقاً أثيراً عندي فسألني:(يا أخي أين أنت) قلت: (حيث تراني) قال: (إنا لا نجدك في أي مكان) قلت: (ذاك لأنك تبحث عني في حيث يوجد الناس عادة، وأنا لا أحب أن أكون حيث يكثر الناس ويزدحمون كالمواشي في الحظائر)
بعد هذه الفاتحة ذهبنا نتمشى واستطردنا في الطريق من حديث إلى حديث فكان مما أذكر أني قلته له أني حُرٌّ كهذا الهواء لا سلطان لأحد عليَّ غير طبيعتي - أعمل ما أشاء، وأترك ما لا أرضى، ولا أكون في أي حال إلا على هواي. وأنا حريص على هذه الحرية الشخصية وضنين بها وفي سبيلها ومن أجلها أهمل ما يعنى به الناس غيري، وأصرف نفسي عما تتعلق به النفوس مخافة أن يجني ذلك على حريتي ولو استطعت أن أبت صلتي بالعالم وأحيا بمعزل عنه لفعلت
وكان صديقي يسمعني أفشر وأمعر على هذا النحو، فيقول:(صحيح صحيح) ولم أكن أعلم في تلك الساعة أني أفشر أو أمعر ولا كان قصدي إلى شيء من ذلك، وإنما كنت أتكلم بأول ما يجري في الخاطر كما هي عادة الناس حين يتحدثون، فقلما يكلف الناس أنفسهم في المجالس عناء يستحق الذكر في التفكير فيما يقولون
وعدت إلى البيت وخلوت بنفسي وشرعت أراجعها وأحاسبها قبل النوم على عادتي فأنى أعنى في آخر كل ليلة بتدبر ما كان مني في يومي، وأكره أن أنام قبل أن أفرغ من هذا الحساب، وما دامت صفحة اليوم قد انطوت فلماذا أبقيها مفتوحة. فأنا كالتاجر أو البنك الذي يحب أن يسوي حسابه يوماً فيوماً ويصفي ما له وما عليه في آخر كل نهار
وفي ساعات هذا الحساب الليلي الذي لا يحسه أو يدري به أحد، يخيل إلي أني أخرج نفسي وأجلسها وأجلها أمامي وأقدم لها سيجارة أو أناولها فنجان قهوة وأحييها وألاطفها أولا كما يقضي بذلك الذوق والأدب بين المتمدينين، ثم أفرك كفى وأقول لها بابتسامة عريضة:(والآن تعالي نتحاسب قليلاً) فتمتعض أو على الأصح لا يبدو عليها أنها ترتاح إلى هذا الحساب الذي لا أختار له إلا وقت النعاس، ولكنها لا تبدي لي هذا النفور ولكنها تبتسم متكلفة مثلي وتقول:(ألا ترى أن الوقت متأخر قليلاً) فأقول: (أشكر لك هذا الرفق ولكنا ما