للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[ليلى المريضة بالعراق]

للدكتور زكي مبارك

- ٢ -

. . . ودخلت أعدو خَلْف الوصيفة في بصر زائغ، وقلب خفاق، فلم أكد أتبين مدخل البيت، وعثرت قدمي على السلم عثرة خفيفة سلم الله منها ولطف، وانتهيت إلى غرفة صغيرة فيها أريكة وثلاثة مقاعد، وتركتني الوصيفة وزاحت تدعو ليلى، فتلفت أدرس أساس الغرفة في لهفة وشوق، فوجدت على الحائط قطعة من القطيفة نقش عليها هذا البيت:

يقولون ليلى بالعراق مريضةٌ ... فيا ليتني كنت الطبي المداويا

ورأيت بجوار تلك القطيفة صورة السيدة نادرة التي جمعت عواطف العرب حول ليلة بفضل ما أبدعت في ترجيع هذا البيت، ورأيت فوق المنضدة كتابين: رسالة التوحيد للشيخ محمد عبده، وذكريات باريس للشيخ زكي مبارك، فيا عجباً كيف جاز لمنزل ليلى أن يجمع بين الهوى والضلال!

وغابت ليلى ولم تعد الوصيفة، واستمر الحال كذلك عشرين دقيقة، فدفعني الملال إلى التلهي بالنظر في سلة المهملات، وما أدري كيف وقعتُ في هذا الفضول، فهل تصدقون أني رأيت بين الخطابات الممزقة رسالة من (فلان) يؤكد لها أن زكي مبارك أديب وليس بطبيب؟ سامحك الله يا دكتور فلان، ولا أراك نعمة الهوى والجنون!

لعل ليلى في زينتها، وإلا فكيف أعلل صبرها عن لقائي كل هذا الزمن الطويل؟

ثم فتح الباب، ودخلت امرأة ملفوفة بالسواد لا تقع العين منها على شيء، ولم لا أقول دخل شبح أسود نحيل كأنه عود الخلال؟

وانحط ذلك الشبح على أحد المقاعد، ولكن هذه الجفوة لم تمنع قلبي من تواتر الخفوق. وبعد لحظات طوال كأعمار الأحزان تكلمت ليلى

رباه! ماذا أسمع؟ إن أذنيّ لا عهد لهما بمثل هذا الصوت المتكسر الناعم الحزين

ومضت ليلى تتكلم وتسهب، ولكني لم أفهم شيئاً، فقد كنت مشغولا بدرس طبيعة هذا الصوت، هذا الصوت الذي يذكرني بتلك الفتاة التي خفق القلب لها أول خفقة، والتي قلت فيها أول قصيدة، وسكبت عليها أول دمعة، تلك الفتاة المنسية التي تنام في قبر مجهول

<<  <  ج:
ص:  >  >>