للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[الغزالي وعلم النفس]

للأستاذ حمدي الحسيني

الأمراض النفسية

- ٨ -

في الإنسان قوة اختلف علماء النفس في تسميتها؛ فبعضهم يسميها قوة الحياة أو القوة الدافعة أو إرادة القوة أو اللبيد، وهذه القوة على كل حال تدفع الإنسان إلى الاحتفاظ بحياته وتحفزه إلى أن يعني بأركان الحياة من الغذاء والسلامة وتخليد النوع. وفي الأزمنة الغابرة كان سهلا على الإنسان أن يحصل على مطالبه الضرورية المحدودة كما تقتضيه غرائزه وميوله. أما بعد أن تقدمت الحضارة وأصبح المجتمع يقضي على الإنسان بالخضوع لآداب وقوانين وعادات وتقاليد كثيرة لم يعد الإنسان قادراً على أن يطلق الحرية لغرائزه ورغباته وميوله وأمانيه.

بل اضطر أن يقمع كثيراً منها ويكبتها في قرارة نفسه كلما حاولت الظهور بمظهر لا يرتضيه المجتمع أو يضر بحسن مركزه أو سلامته فيه، وبذلك قام في النفوس صراع شديد بين ما يتطلبه المجتمع وبين ما يتطلبه الفرد. إلا أن كل رغبة تكبت وكل غريزة تخمد لا تموت بل تنزل إلى قرارة النفس وتنحدر إلى أعماقها المظلمة. وتبقى هناك حية عاملة في الخفاء تحرك المرء وتدفعه فتوجه سلوكه أو تحدث له من العلل الشيء الكثير على غير علم منه ببواعث هذا السلوك أو هذه العلل. وقد تحاول هذه الدوافع أن تجد لها منفذاً إلى الشعور فيمنعها المرء بإرادته ويقيم عليها من نفسه رقيباً هو الضمير يردها إلى اللاشعور فترجع خاسئة مهزومة ولكنها لا تلبث حتى تتحفز إلى الظهور ثانية وثالثة.

فكأن هناك مصارعة نفسية مستمرة بين الهوى والعقل تنتهي غالباً بمرض عصبي أو شذوذ في السلوك وهذه المغالبة والمصارعة بين ما تقتضيه أهواء الإنسان وميوله وبين ما تقتضيه البيئة تحدث كل يوم وفي كل إنسان من بداية نشأته إلى مماته.

وقد تنبه العالم الغزالي رحمه الله إلى هذه المعركة الهائلة في النفس الإنسانية وتتبع أسبابها وعللها وأهدافها ومراميها فعرف جلية أمرها وحقيقة حالها معرفة لا تقل قيمة وخطراً ولا

<<  <  ج:
ص:  >  >>