نعم، فجعت مصر في أميرها، وقلما تفجع مصر في أمير! وعمر باشا طوسون أحق أنداده - إن كان له أنداد - بأن نقول مصر فيه: اليوم فقدت أبني البار وأميري الحق! ذلك لأنه أعزها وأجلها، وعاش فيها وبها ولها، ووقف على خدمتها حياته كلها؛ فلغتها لغته، ودينها دينه، وقومها قومه، وتقاليدها تقاليده، وأمجادها أمجاده. وما يمتري اثنان في أن حفيد محمد علي وصهر إسماعيل كان على جلالة منبته وضخامة ثروته فلاحاً متواضع النفس لين الجانب، يهبط مختاراَ إلى مستوى الحياة العاملة فيلابس سواد الجمهور، ويتمرس بمختلف الأمور، ويأخذ بالنصيب الأوفر من الرأي الموجه والعمل المثمر. ولم تسول له نفسه مرة أن يقف على قمة الشرف الموروث ثم ينظر من علياء إلى رزق الله وخلق الله بشطر عينه ويقول بلهجة المتغطرس المزهو:
أولئك ضياعي، وهؤلاء عبيدي!
رحم الله الأمير عمر! لقد كان في حياته ومماته مثال الأمير الديمقراطي الصالح. وأريد بالصالح معناه المدني الرفيع من صلاح للدنيا وللدين. ولعله بهذا المعنى يوشك أن يكون رجل وحده في الأمراء والأغنياء كافة!
كان أشبه بالعصاميين في تدبير ملكه وتنمية ثرائه. ورث اكثر ضياعه من غامر الأرض فلا زرع ولا مرعى. فلو كان من أولى الجسد البض والعظم الخرع والطبع المدلل لأجاب الخبير الذي قال له:(إن إصلاح أرضيك يحتاج إلى مال قارون وصبر أيوب): دعني لخيول سباقي وكلاب صيدي وخلاك ذم! ولكن الأمير الشاب شمر للأمر تشمير الرجل، واستعد للعمل استعداد المضطر، وأقبل على سبخات الأرض ومناقع الماء يقذف فيها الخصب، ويسبغ عليها النماء، ويغري بها الربيع زهاء نصف قرن، حتى أصبحت الأجادب منازه نعيم، وصار (الخزان) خزائن نعمة!
من ذلك اشتد حبه لأراضيه لأنها ثمار جهده، وقوى عطفه على فلاحيه لأنهم رفاق جهاده. ثم اتسع حبه لضياعه حتى وسع وطنه، وانتشر عطفه على أتباعه حتى شمل أمته. حينئذ أخذ يوزع نشاطه على حركات الإصلاح في الأرض وفي الناس، فنهض بالإنتاج الزراعي نهضة موفقة بما أمد به الجمعية الزراعية من علمه وعمله وماله وجاهه. ثم كان له في كل وجه من وجوه الخير نفحات ظاهرة وباطنة. وامتد أفقه إلى الأمور السياسية والقومية