جميل جداً أن يتجه الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد إلى كنوز الأدب العربي يجلو صفحاتها ببيانه المطرب المعجب العميق. وقد كان من أواخر ما جلته لنا يراعته الفياضة من هذا القبيل (جميل بثينة) في شعره وفي سيرته، فملأ بذلك فراغا كان يشعر به رواد الأدب الحديث. وكان بغنائه هذا اللحن الجديد في هذا الموضوع القديم يمثل بحق دور (الكاتب البارع) الذي تحدث عنه (سنوحي) في قصته عن لسان أحد أبطالها المبدعين.
وقد استوعبت رسالة الأستاذ عن (جميل) مطالعة وإمعاناً ملتذاً بما تحويه من أفانين النظريات النفسية الحديثة في عرض كله إمتاع. وفي أثناء مطالعتي لفصولها تبدت لي بعض ملاحظات لا تؤثر على جوهرها ولا فضلها، وهذه هي:
أولا: يصف الأستاذ بثينة (بالحمق) مستدلا على ذلك بحديثها مع عبد الملك بن مروان حين قال لها ما الذي رأى فيك جميل؟ فقالت: الذي رأى فيك الناس حين استخلفوك. ويعقب الأستاذ على هذا بقوله:(مثل هذه الحماقة لا تظهر في الكهولة إلا إذا كان لها أساس أصيل من بداية العمر). والذي يلوح لي أن إجابة بثينة لا تنبئ عن حمق، بل هي تشف عن حصافة رأى ورجاحة عقل وسرعة بديهة وجرأة قلب، شأن الكيسات الفصيحات من نساء عرب البادية. فعبد الملك إنما سألها بما سأل مبكتاً غاضا من جمالها وقادحا في جميل الذي فتن بهذا الجمال الموهوم. وسرعان ما أدركت غرضه فردت له الكيل بكيل مثله
ثانيا: في الصفحتين ٨٦ و ٨٧ من فصل (مكانة جميل الشعرية) مال الأستاذ إلى نظرية القائلين بتقديم جميل الشعرية في النسيب خاصة على شعراء الجاهلية والإسلام. وفي الصفحة ٩٨ نقض هذه النظرية. فأيهما أجدر بالاعتبار والتقرير؟
ثالثاً: يقرر الأستاذ خطأ مدرسة (الاستحسان) التي تقرر بأن من وصف محبوبه بأنه كالشمس أغزل ممن شبهه بالبدر أو كوكب من الكواكب. وقد ساق ما لا مريد عليه من الأدلة لتوطيد هذه النظرية الطريفة، بيد أنه خرج من ذلك في الصفحة ٧٨ إلى أن قول جميل:
رمى الله في عيني بثينة بالقذى ... وفي الغر من أنيابها بالقوادح