أكثر أبطال يوريبيدز وأقواهم وأزخرهم بالحياة الصاخبة والعواطف المضرمة المتضاربة هم من النساء. . . لقد كان ينظر إلى المرأة كما كان إبسن الأسكندنافي ينظر إليها. . . كان يرى أنها محور الحياة وقطب دائرتها؛ وكان يرى إلى الرجل بجانبها كأنه لعبة، فهي لا تفتأ تلهو به وتتخذ منه ميداناً لنشاطها وفريسة لأهوائها، فإذا أرضاها فهو هالك، وإذا أسخطها فهو هالك، وهو هالك إذا لم يرضها أو لم يسخطها، لأنها تقف منه دائماً موقف السبع الجائع الذي لا يعرف إلا السطو والنهش وإهراق الدماء لا حباً في هذا كله، ولكن لأن هذا كله مركب في طبيعته وجزء من جبلته ولعل السبب في هذا ما لقي يوريبيدز من التعاسة في حياته الزوجية، فلقد كان الشك يمزق قلبه من ناحية زوجته الأولى التي اتهمها التاريخ بأنها خانت زوجها، كما يتهم زوجته الثانية بأنها لم تكن أخلص له ولا أوفى من سابقتها. . . والمؤرخون المحققون على أن التهمتين باطلتان، ولو أن فيهما ظلاً من الحق لما أهمله أرستوفان عدو يوريبيدز اللدود ومعاصره ومتسقط أنبائه ومحصي عثراته. . . إلا أن قسوة يوريبيدز على المرأة ونظرته الصارمة إليها وما دأب على تحليل أخلاقها به في أكثر دراماته، كل ذلك دليل على ما كان يتردد في أعماقه من أصداء حياته الزوجية، تلك الأصداء التي كانت تتجاوب في شدة وفي صرامة وعنف في ثنايا دراماته. . . ولعل أقوى هذه الأصداء جلبة وأشدها ضوضاء ما صور به بطلته البربرية ميديا التي شغفها جاسون حبا فلم تبال أن تخون أباها وتذبح أخاها في سبيل الفرار معه؛ ثم لم تبال بعد ذلك أن تذبح ابنيها لكي تشب سعيراً من الألم في نفس حبيبها الذي هو أبوهما لأنه أبغضها لكثرة ما رأى فيها من الميل إلى الأذى والتوسل إلى مآربها بسفك الدماء خصوصاُ بعد إغرائها بنات بلياس بقتل أبيهن. . . وكان عزائها عن كل ما جنت يداها أن تقف على جاسون وهو يسفك روحه دموعاً بل دماً على ولديه فتشفي حَردَ نفسها ودَخل قلبها لأنه لن يبتسم للحياة بعد، ولن ينعم بلذائذها بعد أن تركته وحيداً فريداً لا أنيس له ولا مواسي فيواسيه