(في تاريخنا الزاهر دماء زكية خالدة خطت آية المج الكبرى ورسمت حدود عالم إسلامي واسع).
- ١ -
خرج محمد يستقبل وفد (يثرب) وقد بدت على وجهه متاعب ما يكابد من عنت وأذى، ومعاندة واستهتار، من هذه العصبة الفاجرة من قريش، التي ألبت عليه القبائل، وأغرت به الصبيان والسفهاء، ودفعت إلى هجوه الشعراء، ينعتونه تارة بالكاهن والساحر، وطورا بالمجنون والشاعر، وهو صابر على أذاهم راض بقضاء الله فيه، يتسع قلبه الكبير لهذه المكاره كلها، وتطوى نفسه العظيمة هذا العبث الذميم، فهو يمشي على الأرض هوناً، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً، وإذا أسمعه السفهاء شتما والصبيان رجما رفع يده إلى السماء وقال (ربي أهد قومي فإنهم لا يعلمون).
وحين لمح (صلى الله عليه وسلم) الوفد اليثربي الكبير، أختفت من وجه سحابة الألم، واستقبله باسما مرحبا، وجلس يحدثه عن عودته، ويبين له مبادئ رسالته، ويحثه على الصبر والشجاعة والتضحية، ويعلن لهم أن شريعته لا ترضى بالظلم والعبودية، ولا تقر الشرك والأوثان، وتنفر من البغي والعدوان. . . فإذا بالوفد يخشع، وبالعيون تدمع، وبالقلوب تجب، وبالنفوس تصفوا، وبالأرواح تصفق، فيتقدم الوفد اليثربي من الرسول مصافحا معاهدا، يبايعه على أن يعبد الله وحده لا شريك له، وأن يأمر بالمعروف، ويسعى في الخير، ويدعو الله ويضحي في سبيله بالمال والنفس. . .
وتقدمت من رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ذاك امرأة رزان، تمشي استحياء، ويكسوا محياها خفر المؤمنة التقية، وصبر الأم الحنون، وجلال من تملكت الخشية قلبه، وبسالة من باع في سبيل الله روحه. . . تقدمت تعاهد محمداً إلى الأيمان والتضحية والأقدام. . . فبارك صلى عليه وسلم عهدها، ودعا لها، وأمرها أن تكون رسولا إلى لداتها وأترابها،