لثمانية أعوام خلت كنت إذا مررت بناحية معينة من زراعتي أشعر فجأة بشبه صدمة يعقبها شيء من الاشمئزاز، إذ تقع عيني بين نضرة النبات على بقعة جرداء. وحتى في الأوقات التي لا تكتسي الأرض بحلة من زرع كنت أرى في لون التربة معنى من الجدب ولوناً من الإهمال. كنت أراها كالمن يفسد معروف الرجال، وتجاور هذه البقعة مقابر (الشيخ عطا)؛ فكأنما تفصل بين الدنيا والآخرة. وكم آلمني منظرها، والفلاح كالفنان يجد أذى في النشاز؛ فهذا يسره اتساق المزروعات مرأى، وذاك يكره تنافر الألوان، أو إهمال التنسيق في ناحية من تمثاله
وقلت مرة إن إصلاحها يأخذ بيد أهل الدنيا، ويرفه الجوار لسكان هذه المقبرة!. . . كان ذلك سنة ١٩٣٦
ومنذ يومين مررت بها كأي مرور مما يحدث مرتين في الشهر على الأقل. ولكن ما أدري كيف سبح الخيال إلى عام ١٩٣٦، ولمَ رجعت الذاكرة سراعا إلى ما كان؟!
نظرت فإذا الحقل ضمن زراعة القطن هذا العام، وإذا الحقل يمتد في نظام ونضرة واتساق إلى آخر حدود المقبرة!
تلفت إلى ناظر الزراعة عن يميني، وتلفت القلب إلى صفحات تنشر من عمر مضى، وكادت تشغل الصحف كل البال، وتغمر في طياتها الحاضر. ثم تيقظ العزم وتيقظ الحاضر؛ فتساءلت: أين القطعة التي عملنا على إصلاحها؟ قال: هي تلك! مشيراً بيده: انظر، لقد أصبحت أخصب ناحية في زمام القطن. . . المجاور!
وهل زرعت لحسابنا؟ قال: كيف! لقد تقاطر الراغبون حين فراغنا من عملية الإصلاح، وإني لأذكر كيف كانت مطمح النظر لأول (خط) رسمه المحراث فيها
وفي الشهر الماضي زرت صديقي وأستاذي صاحب الرسالة، وفي حديثنا أشار بلفظه العذب وأسلوبه الصافي عاتباً عليَّ انقطاع كتابتي قائلاً: أهكذا لا شيء من نظمك ولا شيء من نثرك؟ إني غاضب حقاً. لم يكن ردي اعتذار ووعد بإعادة ما كان بيني وبين الرسالة