أصبح عيسى بن هشام شيخاً فانياً خَرِفا، لم يبق منه الدهر سوى جلد ذابل، على عظم ناتئ. غير أن مر السنين لم يَزِده إلا ولعا بسرد القصص ورواية الأخبار:
لكن حديثه أصبح كحديث كل شيخ يَفَنٍ كبير، قد اشتمل على شيء
كثير من الخرافات والخيال. مما يجهد العقل، ويعيا به اللب، ويكاد
حبل الفهم أن يْنبَتَّ دون إدراكه.
أنْصِتْ إليه اليوم إذ يتحدث إلى جُلاسَّه عن الهرم الأكبر وناطح السحاب فيقول:
كان الهرم الأكبر راقداً، غارقا في رقاده، نائما يغط في نومه. وقد وسد رأسه ترابا لينا ورملا ناعما. وقد وُطَّئ له الفراش. ومهُدَّ له الثرى. فمضجعه سهل وثير ويغشاه لحاف غليظ تِرب، قد أكل عليه الزمان وشرب. لكنه كان يجد تحت هذا الغطاء الكثيف الراحة والدعة، وهما أجل ما يتمناه.
ولهذا بقى راقدا غارقا في رقاده، نائما يغط في نومه عصفت به العواصف، وأهابت به الأحداث. وثارت من حوله الأعاصير. واهاجت الرياح رمال الصحراء حتى امتلأت بها طباق الهواء. واحتجبت النجوم عن العيون، ولمع البرق وقصف الرعد، وملئت السماء حَرَسا شديداً وشهُبُا. . . ثم زلزلت الأرض زلزالاً عنيفاً مخيفاً. فمالت إلى اليمين ثم مالت إلى اليسار! وأخذت ترتجف وترتعد، وتعلو وتهبط.
فهل حرك الهرم الجاثم؟ هل فتح جفنا أو حرك طرفا؟ هل أيقظته هذه القوارع الملمة والكوارث المحدقة من كل جانب؟
انه بقى راقداً، غارقا في رقاده، نائما يغط في نومه
وفي يوم من أيام البلاء أتى إليه رجل فرنسي قصير القامة، دميم الصورة. مُقَشَّر الوجه. قد ملأ الغرور قلبه، وأعمى الوهم عينيه. . جاء هذا الفرنسي فنصب مدافعه أمام الهرم وصوبها إلى رأسه، يريد أن يوقظه من رقاده الطويل. فجعل يلقي بقذائفه: قنبلةً خلف قنبلة، وقذيفة إثر قذيفة.