إنه - والله! - لم يزد على أن رفع الرأس قليلا، وبصق في وجه ذلك المغرور. ثم عاد إلى سباته العميق.
وظل راقداً، غارقا في رقاده، نائما يغط في نومه.
ولهذا الغطيط الدائم ضوضاء هادئة حينا، عنيفة أحيانا وقد ألفتها الأسماع فهي قلما تزعج أحداً أو تقلق كائنا. . غير أن أبا الهول قد أصبح ذا مِزَاج عصبيً حساس. وقد استيقظ مرة فخيل إليه أنه لم يعد يطيق تلك الضوضاء. فالتفت مرة إلى الهرم في ليلة حالكة الظلام، وخاطبه بصوت أجش، فيه حدة وفيه عنف وشدة. وقال: أما كفاك رقاداً أيها الشيخ الهرم، الذي طال نومه وأظلم يومه، وخمد فهمه، وطاش سهمه؟ ألم يأن لك أن تفيق، وتكف عن الغطيط؟ لقد فضحني في الملأ الأدنى وفي الملأ الأعلى بنخيرك هذا الذي ليس له غاية، ورقادك الذي ليس منه إفاقة. حتى أصبحت مضرب الأمثال في الكسل والجمود وغدوتَ لي سُبَّةً وعارا. . فوا الذي نفس خوفو بيده، لولا بقية حلم ووقار لَلَكْزُتك لكزاً، أو سفعتك سفعا ولأطرت النوم عن عينيك أنهضتك من هذا الرقاد الشائن. . .
قال عيسى بن هشام: هكذا أهاب أبو الهول بالهرم، هكذا صاح المسكين، وأمعن في الصياح، حتى انتفخت أوداجه، وجاشت مناخره، واحمرت عيناه وجف ريقه. . فلا والله ما تحرك الهرم ولا تحول. وما زاد على أن تثاءب، ثم عاد إلى سباته العميق.
وهكذا ظل راقداً، غارقا في رقاده، نائما يغط في نومه
حتى إذا كان الشتاء الماضي شهد العالم مشهداً غريبا، وحادثا عجيبا: ذلك أن الهرم تحرك. . أجل وأبيكم - بل وأبي أنا أيضا - لقد تحرك الهرم، ومدَّ يده إلى عينيه فدلكْهُما دلكا عنيفا، ومسحهما مسحا شديداً. . ثم رفع رأسه قليلا. . وأخذ يحرك شفتيه بالكلام، فإلى من كان يتحدث؟. .
ذلك هو السر الخطير، والخطب الكبير! إنه كان يتحدث إلى بعض نواطح السحاب. . .
ولا تعجبوا أنْ وُفَّق هذا الناطح إلى إيقاظ الهرم، حين أعيت فيه سائر الحيل. ذلك أن النظير أبداً يجذب النظير، والحجر العظيم يلين للحجر العظيم، ولا يفل الحديد إلا الحديد، وسيد أبنية الغرب جاء قاصداً سيد أبنية الشرق، لا زائراً أو حاجا، بل سائحا ومطلعا. فأبى السخاء الشرقي والكرم الشرقي إلا أن يتحرك له الهرم الأكبر بعض الشيء، ويكرم وفادته