كانت السماء مطبقة على الأرض، والمطر يسح حثيثاً متداركاً يكاد من شدته يقشر القطران، والماء يسيل على جانبيالطريق ويتدافع ويرتفع له مثل الموج، وكان أمام نافذتي بوابة عريضة وقفت على عتبتها فتاة تتقي المطر في ظُلتها. وكانتترتدي ثوباً مشرقاً بين الحمرة والبياض كأنما استعارت صبغته المزدوجة من الشمس الغاربة والقمر الطالع. وكانت فيه كأنها مِقطَعٌ أو مثال فصل الثوب على قده لعرضه على العيون، فمحاسنها كلها مجلوّة، وخطوط قوامها اللين مرسومة، وقد أجتمع طرفان منه على سرتها وانعقد على صفة وردة كبيرة، وتدلتعلى مدار خصرها الهضيم ذلاذل تكاد تمس قدميها الدقيقتين؛ أما صدرها فأطاف به شيء لا أدري ما صفته كان ثديها الناهدان يبدوان من تحته كأنهما في كأسين، أو كأنهما موجتان متناوحتان حجزتا وحيل بينهما وبين التسرب والانسياب. ولم يكن أفتن من منظرها وهي واقفة ترقب انقطاع المطر، وكان معي في البيت صاحب يحمل مظلة جميلة غالية، لا تفارق يده في صيف شتاء، ولا ليل ولا نهار، فكأنها قطعة منه، أو امتداد لذراعها، فغافلته وحملتها، ومضيت بها إلى هذه الفتاةووضعتها في يمينها، وارتددت عنها بلا كلام. فلما أفاقت من دهشتها كنت قد غبت عن عينها. وآن لصاحبي أن يخرج، فنظر فلم يجد المظلة، فتلفت هنا وهنا ثم سأل فقلت:(أترى هذه البوابة؟ كانت هنا فتاة جميلة تخشى على نفسها وعلى ثيابها من المطر فلم يسعني إلا أنجدها. . .). فسأل:(أعطيتها المـ. . . .
قلت: (ألم أقل لك إنك ذكي؟ بل أنت أيضاً ذو مروءة ونجدة وشهامة).
قال:(ولكن مظلتي؟ كيف أخرج الآن. . . . وفي هذا المطر أيضاً؟).
قلت:(إنها بلا شك تشكر لك هذا الصنيع الجميل، فأنت سعيد بذلك، فليتني كنت صاحبها - أعني المظلة!).
قال:(ولكن ماذا أصنع؟ كيف أخرج؟ إن هذا شيء. .). قلت:(يا صاحبي. إن الإيثار حميد، ولأثرة ذميمة).