بقى بعد هذا بدعة أخرى، وهي آخر ما سنتكلم عنه - جاءتنا هذه الأيام من فرنسا، وفرنسا دائماً بلد العجائب وأم البدع. هذه البدعة الجديدة وأعجب ما في أمرها أنها تدعي لنفسها عراقة نسب في التاريخ وكرم محتد في الفلسفة تسمى (الوجودية) '
وأعجب من هذا أن يظهر مثيل لهذا المذهب في ألمانيا على يد الفيلسوف الأديب نيتشه قبل القرن العشرين، ويظهر المذهب نفسه بعد ذلك على يد هيديحر في ألمانيا أيضاً؛ فلم يكد يعرفه أحد هنا حتى ظهر هذه الأيام في فرنسا على يد سارتر فسرعان ما وجدنا له أساتذة عندنا وأعواناً قبل أن يجد سارتر الأعوان والأساتذة؛ لأن فرنسا غدت بعد الحرب في فقر من الرجال كما يقول سارتر.
لا يدخلن في روعكم أن هذه الفلسفة أتت بجديد؛ فهي عين ما جاء به روسو وفولتير ومزدك والإسماعيلية وماركس: البهيمية والإباحية. . . مع اختلاف الأسماء وتزويق في الألفاظ! ولكنها على كل حال تجلت في ثوب جديد، وعرفت كذلك باسم جديد يلائم ذوق العصر وثقافته ' فلنعرف أولا ما هي هذه الوجودية ثم ليكن بعد ذلك ما يكون:
خلاصة ما فهمت من شروحهم بعد دراستي لهذا المذهب وبخاصة ما كتب زعيمهم سارتر ولا سيما في كتابيه (الوجود والعدم) ' والمتوهم '
أنهم يقابلون قسمة الكائنات الحية في الدين وعند كل الفلاسفة القائلين (بالإثنينية) إلى روح وجسد، أو إلى مثال وصورة، أو إلى جور وعرض. تتقدم الروح في الوجود ظهور الجسد، ويتقدم المثال تجسيد الصورة، ويتقدم الجوهرُ العرض، إلى آخر تلك الأشياء التي هي في واقعيتها ومعقوليتها أقرب إلى أن تكون بدائه؛ فيزعمون أنها خرافات تأصلت في النفوس بعد أن ابتليت بداء الدين العضال!!
فلو سألناهم: إذا كان هذا باطلاً حقاً يتجافى الواقع كما تدعون فعرفونا بما لديكم من أنباء الأمور الصحائح لعلنا نهتدي بهديكم، وجدناهم يعمدون إلى الغموض والتعمية وإلى المراوغة والتكايس، ولم يزد كل أمرهم على أن يقابلوا شيئاً بشيء فيضعوا لفظاً مكان