للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[٢ - من ذكرياتي في بلاد النوبة:]

في الباخرة!!

للأستاذ عبد الحفيظ أبو السعود

وتحدث بعض الناس عن عنيبة مادحاً، فهذا تاجر - أخنى عليه الدهر، فاضطر ليعمل ساعياً في بعض مصالح الحكومة - يحدثنا فوق ظهر الباخرة حديث الخبير العليم، عن أحوال عنيبة وظروفها، وما ينعم به موظف الحكومة، والمدس خاصة، بشتى ضروب النعم، ومختلف لذاذات الحياة. وأن عنيبة باريس بلاد النوبة عامة! وأنها جنة الصعيد على الإطلاق، جواً، ومنظراً وبعداً عن الحشرات والأمراض!!

ووقع هذا القول من نفوسنا موقعاً جميلا، فماذا يبغي الإنسان من دهره غير حياة هادئة وادعة، يجد فيها لذاذات العيش، وراحة البال؟!

وهذا رجل آخر يذكر لنا وفرة الطيور، وكثرة اللحوم، ورخص الخضر، وبعض أنواع الفاكهة، وأنه على استعداد ليوفر لنا كل ما نحتاج إليه، ويورد لنا كل ما نريد، دون أن تحرك ساكنا، أو ننقل قدماً، وأن الدجاجة الكبيرة التي تساوي في القاهرة ثلاثين قرشاً، بثمانية قروش، والزوج من الحمام بسبعة قروش، والرطل من اللحم الضأن بسبعة قروش أيضاً، وثمن أربع بيضات قرش واحد!!

وكانت هذه الأثمان تسترعي انتباهنا، وتستوجب دهشتنا، وكان معنا في الباخرة مهندس ميكانيكي، وقاض شرعي منقول هو الآخر إلى عنيبة، فأخذ كل منا يعلق على هذا الكلام القريب من كل نفس في هذه الأوقات، وفي عينه فرحة، وفي وجهه دلائل الدهش والاستغراب! فكلنا ذاق مرارة الجشع. وقسوة الطمع، وارتفاع الأثمان إلى أضعاف ما يجب أن تكون عليه، ولا يزال علمنا بأثمان الحاجيات، ليس ما تسعره الحكومة وتفرضه، وإنما ما نشتري به بالفعل، من أيدي التجار، الذين لا يخافون الله، ولا يخشون عين الحكومة، ولا سطوة القانون.!

مكثنا نضرب مع أولئك الذين يدعون أنهم على علم ببواطن الأمور في عنيبة، وكأنما فهموا منا هذا الإحساس، فسمعنا ما جعل الشك يدب إلى نفوسنا في هذه الأحاديث، وأن ما يقال ليس هو الحقيقة والواقع، وإنما أراد هؤلاء الانتفاع منا فأعرضنا عنهم، وبخاصة وأن

<<  <  ج:
ص:  >  >>