يجد المتوغل في تاريخ العرب حركة علمية واسعة النطاق، امتدت أحقاباً من الزمن، وهي كلها جديرة بالعناية والدرس، وحرية بأن تتناولها الأقلام في وقتنا لتجلو مختلف صفحاتها التي كانت إحداها السياحة في البلدان والضرب في مختلف الأصقاع
لقد امتهن بعض العرب هذا النوع من الحياة، فكان منهم من نسميه بالتاجر الرحالة. . . بل إن فريقاً آخر منهم اتخذها علماً، يعلو به ويكتب فيه، وينشر لواءه شرقاً وغرباً. . . ذاك هو الجغرافي المخطط للبلدان. وليس بين الفريقين من مدى واسع، فإن كليهما يستكشف مجاهل الأمكنة والبقاع، ويتولى البحث في أحوال الأمم التي يتردد إلى مواطنها، فيدرس طباعها ويتعرف خواصها ويتصل بأسباب ثروتها، فيصف تربتها وغلاتها وطرقها، إلى ما هنالك من مرافق عامة وخاصة.
هذه كلمة نمهد بها لكلامنا على الرحالة العربي الشهير:(ابن حوقل) الذي ذاع صيته في القرن الرابع للهجرة، والذي بالرغم من ذلك لم يخل مجال البحث عنه من مصاعب وغموض، نظراً إلى أن ما بين أيدينا اليوم من المصادر القديمة لم يورد بشأن منشأه وحياته ووفاته إلا النزر اليسير.
حياته
هو أبو القاسم محمد بن علي الموصلي، ولد ببغداد، ونشأ بها على اتفاق أغلب المؤرخين، وذلك في أواسط القرن الرابع للهجرة، وأقبل على التجول في البلاد الإسلامية، متعاطياً التجارة، لمكانتها الخاصة في الكسب، ولما تقتضيه من التنقل والتجول، وهي الناحية التي شغف بها فتملكته. وصادف عند ابتدائه في تجواله عام ٣٣١هـ (٩٤٢م)، أن انقطع المسعودي الرحالة الشهير عن الارتحال ولزم داره، وعلى هذا فإن ابن حوقل قد خلف المسعودي في هذا المضمار. . . وانتهى رحالتنا من رحلته الواسعة سنة ٣٥٩هـ (٩٧٠م). فيكون بهذا قد أمضى ثمانية وعشرين عاماً في حل وارتحال، زار خلالها أقاصي البلدان، فساح في العالم الإسلامي شرقاً وغرباً من نهر السند إلى المحيط الأطلنطي، ووصف بلاد البربر وصفاً جميلاً، كما أنه جال في بلاد الأندلس متنقلاً بين كثير من مدنها