للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[جمال الدين الأفغاني]

جهاده في سبيل الشورى والحرية

(بمناسبة ذكرى وفاته التاسعة والأربعين)

في اليوم التاسع من شهر مارس عام ١٨٩٧ قضى السرطان في عاصمة الخلافة على الحكيم الثائر المصلح السيد محمد جمال الدين الأفغاني، بعد أن بلغ الرسالة وأدى الأمانة، ومسح عن عيون الشرقيين ما فتَّرها من همود الكرى، وجلا عن قلوب المسلمين ما غشاها من صدأ الجهل، فاطمأن الاستبداد، وأمن الاستعمار، وظن الذين ينقضون أوطانهم ليقيموا عروشهم، والذين يزيفون أديانهم ليملئوا كروشهم، أن الصوت قد خفت، وان المشعل قد انطفأ؛ ولكنهم نسوا أن الرسل يبلغون والله يُثْبت، وأن المصلحين يبذُرون والدهر يُنبت، وأن جمال الدين إنما كان صيحة الحق وإشراقة الهدى انبعثتا من يومهما الموعود كما ينفجر المكظوم فيدوّي، ويحلو لك الليل فيُصبح. وهل كانت الثورات الديمقراطية التي شبها العرابيون ثم المهديون ثم الاتحاديون ثم السعديون ثم الهاشميون ثم الفهلويون إلا أقباساً من تلك الشعلة المباركة التي حملها الأفغاني وتنقل بها في ممالك الشرق، يحرق ويضىء، وينضج ويُحمى، وُيقبس ويشعل، وساعده مرفوعة لا تكل، وعزيمة لا تنكل؟

وسر القوة في هذا الرجل أنه كان صاحب رسالة لا طالب مُلك: هاجم السياسة الإنجليزية في (العروة الوثقى) أعنف الهجوم أيام الثورة المهدية، فدعي إلى لندن ليلوح له اللورد ساليسُبري بُملك السودان ليطفأ الثورة ويقترح الإصلاح. فما كان جواب الأفغاني إلا أن قال: (إن السودان لأهله. وهل تملكونه حتى تملكوني عليه؟!).

وأراده السلطان عبد الحميد على مشيخة الإسلام فأباها وقال: أن وظيفة العالم فيما يزاول من تعليم، وان رتبته فيما يحسن من علم.

أما كيف تهيأت نفسه لرسالة البعث والتجديد على فترة من رسل الهدى وأئمة الإصلاح فجَر فيها الحاكم وكفر المحكوم، فذلك من علم الله الذي يصطفي من يشاء كما يشاء لنصرة حقه وهداية خلقه. وكل ما نظنه معيناً على هذا التهيؤ أنه ولد في بيت كريم الأصل يجمع إلى جلالة النسب إلى الحسين، سؤددَ الإمارة على بعض الأقاليم الأفغانية؛ وانه درج في بيئة تعتز بطباع البداوة من حرية وحميَّة وأريحية وأنفة؛ وانه درس فيما بين الثالثة

<<  <  ج:
ص:  >  >>