غربت الشمس في الرمال اللوبية المرمضة ومن ورائها في الجو والأرض وهيج كزفير جهنم. وكان القاهريون قد احتشدوا فوق الجسور وعلى الشواطئ وفي الحدائق يَنْسمون نَفَس الماء ونفح المساء وأرج الزهر، فكأنما لم يبق في البيوت والقهوات والطرقات أحد. وكنت أنا في زحمة الناس أسير هَوناً على جسر إسماعيل والذكريات العذاب تنثال على خاطري انثيال الشعاع السينمائي بالأخيلة المتحركة على الشاشة، فأذكر فيما أذكر كيف كان ذوو السراوة والنعمة يخرجون قبل أن يعرفوا أوربا إلى الجزيرة آصالَ الربيع والصيف في زينتهم الفاخرة ووضاءتهم الباهرة ومركباتهم الفخمة تتراقص بها الجياد المطهمة العتاق، فيكون للفقراء من عَرْضها منظر فتان من زَهرة العيش يشغل الهم عن القلوب ساعة. ثم أُبصر فيما أُبصر كيف أصبح الجسر والجزيرة - بعد انتجاع المترفين المرفهين فيشي وكرلسباد، ومونت كارلوونيس - مَرَاداً لذوي الفاقة والعاهة والكرب، لا ترى حولهم إلا بؤساً ولا تسمع بينهم إلا شكوى! ثم انتهى بي هذا السير البطيء الحالم إلى (كازينو الكُبرِى) فجلست وحدي في مكان مظلم، وجعلت وجهي وعيني للنيل المزدان بالقوارب؛ وللشاطئ المزدهر بالمصابيح، وأخذت ذاكرتي تغوص وتطفو بين جوف الماضي ووجه الحاضر، فلا أرى فيما خلَّفه الزمان والإنسان إلا مآسي داميةً ألّفها الطمع والأثرة، ومثَّلها الضعف والقوة. وكان عقلي القاصر يعلِّق أحياناً على ما تعرض الحافظة من هذه الصور، فيعجب كيف عجز إلى اليوم دين السماء وعلم الأرض عن التوفيق بين القوة والضعف ما داما متلازمين في الحياة! أليس منشأ الصراع الأزلي بين المرأة والرجل والعبد والسيد والفقير والغني والمظلوم والظالم والمستعمَر والمستعمِر إنما هو القوة في جهة، والضعف في جهة أخرى؟ لا يحق لنا أن نسأل لأيَّة حكمةٍ كانت القوة هنا وكان الضعف هناك، ولكن من حقنا أن نقول: لماذا أعضل على المصلحين أن يحملوا القوي على أن ينزل للضعيف عن بعض القدرة فيستقيم الأمر بالاعتدال ويتحقق السلام بالعدل؟
كانت ساعة الحرس تعلن بدقاتها المدوية انتصاف الليل حين تهالكت على الفراش وأنا من إدمان الذكر والفكر على حال شديدة من الجهد. فلم تكد عيناي تُغفيان حتى رأيت فيما يرى النائم أن دور الفقراء وأكواخ المساكين في بولاق أمست كالتنانير الموقدة تلفح جدرانها باللهب، وتسيل سقوفها بالبق، ويخنق هواؤها بالنتن، فتركها أهلوها هاربين في عتمة الليل