(لا أراك إلا مكباً على كتب الدراسة فلهذه وقت وللراحة أويقات، وهذا انهماك قد يودي بصحتك وأنت ما تزال طفلاً، هلا تذهب معي إلى الشيخ، إني أعتزم زيارته الآن).
هكذا فاجأني أخي الأكبر، ولم تكد شفتاه تنفرجان عن آخر كلمة حتى ألقيت ما بيدي جانباً، وسارعت للحاق به نطوي سهولاً واسعة نغذّ السير على الأقدام، بينما ترسل الشمس علينا شواظها لهيباً لافحاً، وقدماي تغوصان برمال محرقة تجعل مشيتي بخطوات لا اتزان بها.
وما إن تراءت لنا تلك البناية، وهي تقوم على أكمة جرداء تشرف على جانب من سهول قفراء حتى عاودني نشاطي، بيد أن أخي استحثني أيضاً فلوح إليّ بالشجرة التي تبدو إلى جانب الدار وإلى اللجوء إليها من شعاع الهاجرة اللاذع.
وبرز إلينا رجل استفزه هرير الكلب الملح، وإذ عرفنا أومأ إلى كلبه فتنحى إلى ركن أقعى خافتاً عواءه، كأنه يتلمس عذراً.
رحب بنا مضيفنا العجوز واحتوانا مجلس وثير، وثير بفراش يتألف من حصير تعلوه وسادة ومخدتان، فتراخت أعصابي بهدوء حيث الاستمتاع بفيء عميق، تلاشى معه عنت السفر.
وانطلقت عيناي كأنهما تبحثان عن شارد في نواحي هذا المنزل الظليل وفيما احتواه من أثاث بسيط، وإلى هدوء هذا الشيخ ووقاره. إنه منزل رحيب ولو أنه مكون من غرفة واحدة تحيط بها أكوام الأحجرة الدائرة من آثار القرون الأولى، لا يتصل بها من عمران سوى هذا المغار المعد لمأوى عنيزاته، وهي تبلغ العشر عداً.
وفي نشوة هذا الاستمتاع أدركت مغزى إطلاق البدو اسم القصر على أي كوخ يقوم في عرض الصحراء، وأقرر أنهم على حق.
فأية فخامة تحلم بها في غبراء يابسة تعدل هناءك حين تحضنك جدران أربعة تغدق عليك فيئها وتطمئن إلى سلامتك فيها. إذن هو قصر باذخ. ويزيده رواء هذه الشجرة التي لا ثانية لها فهي تخلع على هذا الكوخ ترفاً يتضاءل معه ترف القصور. هي مخضرة الأوراق وارفة الظلال وهي أبداً باسمة مادام كل ما يكتنفها قاتماً، ويرحب بنا المضيف في جلال الشيوخ مخاطباً إيانا في حكمة من وقرت ظهره السنون فتخرج كلماته متزنة في حين تلمع أسنانه البيضاء التي لم يسقط منها سن واحدة على ما أظن.