واعجباً لهذا الفكر المضطرب! كلما تهيأت لأواجه موضوعاً خذلني وارتد القلم يترنح من عنف الصدمة، تاركاً وراءه خطوطاً مائلة منكسرة متعرجة - كتلك التي تجرها يد طفل عابث - هي كل ما أغنمه من أسلاب الفكر المهزوم!. . . حاولت ذلك مرة في الإسكندرية، وأخرى في دمياط، وثالثة في المحلة الكبرى، ومرة أخيرة هنا في القاهرة، ومع ذلك فشلت، وكان فشلي محزناً يدعو إلى الإشفاق. لم أدر لذلك سبباً، فأنا حين أكتب لا أحتاج إلى جو خاص، وليس ثمة ضجيج يمنعني عن الكتابة أو سكون يعينني عليها. ذلك لأني لا أغتصب الفكر شيئاً إلا إذا أحسست رغبة قوية عميقة حارة تدفعني إلى الإذعان له.
وهاأنذا أعود مرة أخرى إلى الإسكندرية لأحاول من جديد إخضاع الفكرة العصية المتمردة لعلها تلين وترضي. . . فهل من سبب لهذه الظاهرة؛ أجيبوا يا أصحاب الخبرة والتجارب؟
كنت أفكر في هذه المرحلة التاريخية التي كان من حظي أن أعيش فيها لأشاهد أعظم انفجار عالمي يوشك أن يزلزل رسوم الحياة، بما فيها من نظم وأخلاق، وعادات وأفكار، تتصل كلها لصميم الحضارة - حضارة القرن العشرين - تلك التي كلما فشلت في رسالتها، قذفت بالبشرية في جحيم باسم الحرية، ذلك الوهم المنحوس.
وكان هذا التفكير يجلو لعينيَّ غامضة، تسطع فجأة، ويتألق نورها، فأرى على وميضه بلاداً غنية التربة، تنتج من الغلال والحبوب فوق حاجتها فلا ترى مانعاً من أن تلقي بالفائض في البحر، كلما وجدت في هذا العمل الشائن ما يحفظ للسلعة سعرها العالمي المناسب. . . فهذه كميات عظيمة من الأذرة تروح (علفاً) للخيل، وتلك مقادير هائلة من ثمار (الموز) تبتلعها الأمواج، وأخرى من البن تلقى بين النيران المتأججة. ثم أشاهد أناساً يسكنون الأصقاع الشمالية ينتفضون من الجوع والبرد، يتضورون بين الدغال طلباً للخبز أو الدفء فلا يكادون يبلغونه إلا على سنان المخاطر. . . ثم أجدني قد انتقلت إلى سوق أخرى تزدحم فيها المصانع، وتتكدس الآلات والمنتجات، ويكثر التعطل والجوع والحرمان!! وتمر الأقطار أمام عيني مراً سريعاً، وكأني أشاهدها على الشاشة البيضاء.