يعاني النقد عندنا حادة ترجع في الغالب إلى أن الكثيرين ممن يمارسونه حديثو العناية به أو يجهلون أصوله وخواصه. فلقد أصبح النقد عند فئة من الناس سواء أكان في مضمار الأدب أم الفن أم السياسة ضرباً من اللهو والعبث، الغاية الأولى منه عند محترفيه إظهار عيوب الآخرين والفض من شأنهم لا لشيء إلا لأن حظهم من الثقافة يسير، ولأن الله لم يؤتهم موهبة في الذوق أو سعة الاطلاع أو سداد المنطق أو صدق الشعور - وهي من أهم مقومات النقد - فجاءت أحكامهم منحرفة. ولقد قرأت قبل مدة قصيرة مقالاً قيماً بالإنجليزية حول النقد وفوائده للكاتب الأديب تايجل بولشن عرض فيه بعض الآراء الطريفة التي تربط بين النقد والأثر المنقود عرضاً وافياً متزناً حداني إلى درسه وعرضه مع بعض التعليقات لعل ذلك يجلو بعض ما ألتبس علينا من أصول النقد وأحكامه وطرائفه.
يشير الكاتب في مستهل موضوعه إلى أن النقد هو (الحكم على محاسن أي إنتاج من الفنون الجميلة أو مساوئه). وسواء أكان الحكم صالحاً أم غير صالح، فلا معدى لنا عن الإدلاء به، لأن النقد كما يقول توماس إليوت ضروري كالتنفس لا غنى عنه للإنسان.
ولئن كان النقد حكماً يصدر، إلا أنه ليس من المحتم أن يكون حكماً جائزاً لاذعاً؛ أقول هذا لأن بنا نزوعاً شديداً في هذه الأيام إلى إطلاق الكلمة كما لو كانت تعني البحث عن الأخطاء فحسب. ومع أن البحث عن الأخطاء من وظائف النقد المشروعة إلا أن البحث عن المحاسن وظيفة ثانية لا تقل أهميتها عنها.
ويصبح الناقد إذ يمارس مهمة التفتيش عن المحاسن والمساوئ حاكماً في وسعه أن يقول ما يشاء. ولكن هنالك نوعين من الحكام أولهما ذاك الذي يجلس إلى منصة القضاء. يدين الناس بالعقوبات عند ما تثبت عليهم إحدى التهم. وأما النوع الثاني فهو الحكم الذي يتجول في معرض الزهور، لم يتقاعس عن التنويه بها ومنح الجائزة لصاحبها.
والفنان عند ما يقدم للناس إنتاجه، إنما يتمنى في نفسه لو كان هؤلاء النقاد من الفئة الثانية، لأنه يكره أن يعامله الناقد معاملة الحاكم للمجرم، وإنما يتوخى دائماً يقاوم وزن لإنتاجه فينوه بفضائله ومحاسنه.