للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وفكرة النقد تتطلب الاستناد إلى قواعد ثابتة، نستطيع في ضوئها أن نتعرف بالشعر الجيد أو الصورة الحسنة أو الموسيقى الرائعة. ولصعوبة الاتفاق على هذه القواعد - مقاييس الجودة والرداءة - تنشأ صعوبة النقد. فهنالك طائفة من الناس تقول أن ليس في استطاعة الناقد أن يصدر حكماً صحيحاً إلا إذا استند إلى قواعد موضوعة متوارثة مع الزمن. بينما تقضي طائفة ثانية بأن متطلبات النبوغ تفرض علينا تحطيم هذه القيود وعدم إخضاع الفن لقواعد معينة. ولهذه الفكرة التي تعتبر الفن فوق القيود جاذبية ساحرة تستهوي نفراً من الناس يودون أن يصبحوا فنانين على حساب الفن دون أن يجهدوا نفوسهم بتعلمه إلى درجة الحذق والإتقان.

وتتصارع حول هذا الموضوع ذهنيتان، تنص أولاهما على أن الفن وسيلة لنقل شيء ما؛ ففي استطاعة الإنسان أن يصور أو يكتب ليرضي نزعاته الشخصية إذا شاء فحسب، وما من قانون يحرم عليه ذلك. ولكنه متى عرض إنتاجه، فإنه بذلك يحاول الاتصال بغيره من الناس لينقل إليهم خواطره أو شعوره أو أفكاره. فإذا عجز هؤلاء الناس عن فهم ما أراد إيصاله لهم، كان ذلك دليلاً ساطعاً على إخفاقه فيما حاول. ولكن لنبين بصراحة وجلاء أن قيمة الإنتاج ليست حتما في تناسب طردي مع عدد الأشخاص الذين يستهويهم ذلك الإنتاج. فما هو المحك إذاً؟ إنه الناقد الحق الذي يستحق حكمه الأخذ به. وهنا نعود من جديد إلى فكرة الأصول النقدية الثابتة.

أما الذهنية الثابتة فتصر على أن النقد الجيد أمر مستحيل، لأنه ليس للفن من قواعد. وقد يسهل اعتناق هذه الفكرة والأخذ بها لو كان الفنان يعيش وإنتاجه كنوع من الظواهر الطبيعية في فراغ تام. ولكنهما في الحقيقة ليسا كذلك، فالفنان، سواء أحب أم كره، خليفة لجميع المتعاطين الذين سبقوه في ذلك المضمار، وما إنتاجه سوى تتمة لإنتاجهم. وبحكم عدم استطاعته الإفلات من قيود الزمن، فأن هذا الفنان يبدأ في إنتاجه بخبرة الأجيال التي سبقته. ومهما حاول التنصل من ذلك، فسيظل عاجزاً عن الابتداء بنقطة العدم. وأما الأصالة التي قد يدعيها، فلا تعدو أن تكون في أغلب الأحيان تحسيناً ضئيلاً أدخله على ذلك التراث الضخم المتوارث عمن سبقوه في ذلك الفن. وفي ضوء هذا المعنى نستطيع أن نقول إن جميع الفنانين تقليديون. ولست أعني بهذا أنهم مجرد مقلدين؛ فإن جيمز جويس

<<  <  ج:
ص:  >  >>