كانت عصبة الأمم في نظرنا دائماً أداة دولية مريبة، لا تتفق أعمالها وجهودها مع المثل والغايات السامية التي أدمجت في دستورها، ولم نستطيع يوماً مدى الخمسة عشر عاماً التي قطعتها العصبة من حياتها أن تحمل على الثقة بها أو الاطمئنان لاستقلالها أو نزاهة وسائلها وغاياتها؛ وإنما رأينا العصبة دائماً أداة مسيرة في يد الدول الغربية القوية توجهها حيثما شاءت لتحقيق مشروعاتها وغاياتها على حساب الأمم الضعيفة، ورأيناها بالأخص سوط استعمار بالنسبة لبعض الأمم الشرقية، تفرض عليها نير الانتداب وتنظمه لمصلحة الدول الكبرى التي تواجهها؛ ولم تقدم العصبة يوماً أي دليل على أنها تعمل لأنصاف دولة ضعيفة أو أمة شرقية، خصوصاً إذا ما تعلق الأمر بمصلحة دولية قوية أو أمة غربية، ولم تنل العصبة توفيقاً في أي ميدان من الميادين العامة أو الإنسانية التي تزعم أنها تعمل في سبيلها، فلم يحقق مشروع نزع السلاح أو تحديده، ولم يوضع نظام ثابت للسلامة العامة أو عدم الاعتداء، ولم تكفل حقوق الأقليات أو الأمم الضعيفة بصورة مستقرة عادلة.
ولكنا رأينا عصبة الأمم تتخذ فجأة لمناسبة النزاع الإيطالي الحبشي صورة أخرى، فتبعث دستورها من قبره وتطبقه بروح جديدة؛ رأيناها تحل السيادة والحقوق القومية مكانتها، وتعمل لاحترام استقلال الأمم الضعيفة، فتصم إيطاليا بما تستحق من وصمات الاعتداء المنكر، وتحرك من نصوص دستورها ما تراه كفيلاً بوقف الاعتداء ورد المعتدي إلى صوابه؛ وتستجمع شجاعتها لتطبيق العقوبات الاقتصادية والمالية التي فرضت على المعتدي، وتطبقها بالفعل على إيطاليا المعتدية، فتحظر تصدير السلاح وجميع المواد الأولية إلى إيطاليا وتبيحه للحبشة، وتطلب إلى أعضائها أن يقطعوا كل العلائق الاقتصادية والمبادلات التجارية مع إيطاليا؛ فيلبي دعوتها نحو خمسين دولة أو ما يشبه الإجماع؛ وهكذا رأينا عصبة الأمم تفتتح عهداً جديداً في سياستها وفي فهم مهمتها الدولية، واستبشرنا بأن يكون العهد الجديد مفتتح الآمال بالنسبة للأمم الضعيفة، فتستطيع أن تطالب بحقوقها وحرياتها، وتستطيع أن تعتمد على ذلك التعضيد الدولي الذي تحمل لواءه عصبة الأمم.