هذه لمحات جديدة في قتل عثمان من ناحيته القضائية، تضع الحق في نصابه، وتبين هل كان في قتله قصاص أولا، وهل سلك المطالبون بدمه الطريق المشروع له أولا، كما تبين كيف سكتوا عن ذلك بعد أن صار أمر المسلمين بيدهم.
فأما عن الأمر الأول فإن الثائرين على عثمان رأوا أن يأخذوه غيلة بعد أن طال حصارهم له، فتسوروا داره من دار مجاورة لها، ونزل عليه جماعة منهم فيهم محمد بن أبي بكر، ولم يكن عنده إلا زوجه نائلة بنت الفرافصة، لأن أهله ومواليه كانوا يشتغلون بالدفاع عنه أمام بابا داره، فدخل عليه محمد بن أبي بكر فاخذ بلحيته، فقال له: يا محمد! والله لو رآك أبوك لساءه مكانك. فتراخت يد محمد حين سمع هذا من عثمان، وخرج عنه ولم يفعل به شيئا، فلما خرج دخل عليه رجلان من الذين تسوروا داره فقتلاه ثم خرجا.
فصعدت زوجه نائلة بعد خروجهما وصرخت: قتل أمير المؤمنين. فدخل كل من كان يدافع عنه فوجدوه قد فاضت نفسه، ولم يمكنهم أن يسألوه عمن قتله.
فانحصر شهود قتله في زوجه نائلة، وقد قام على بن أبي طالب بالتحقيق في ذلك عقب وقوعه، فذهب إلى نائلة وقال لها: من قتله وأنت كنت معه؟ فقالت: دخل إليه رجلان، وقصت خبر محمد بن أبي بكر.
فاحضر علي محمدا وسأله عن ذلك، فلم ينكر محمد ما قالت نائلة، وقال: والله لقد دخلت عليه وأنا أريد قتله، فلما خاطبني بما قال خرجت، ولا اعلم بتخلف الرجلين عني، والله ما كان لي في قتله سبب، ولقد قتل وأنا لا اعلم قتله.
وقد انتهى تحقيق علي في قتل عثمان بذلك، فلم تعرف فيه نائلة ممن دخل علة عثمان إلا محمد بن أبي بكر، ولكنها لم تشهد بأنها رأته يقتله، بل ظاهر شهادتها أن قتله كان بيد ذينك الرجلين اللذين تعرفهما، وحينئذ يكون قاتله مجهولا، وإذا كان قاتله مجهولا فإنه لا يكون في قتله قصاص، بل يكون نصيب قضيته أن تحفظ إلى أن يظهر قاتله، كما يفعل ألان في كل جناية لا يوجد شهود لها، ولا يصح أن يؤخذ محمد بن أبي بكر فيها بشيء، لأنه عزم ولم يفعل، والعزم لا يؤاخذ عليه في الشريعة الإسلامية ولا في غيرها من الشرائع.