وقف الفتى أمام أبيه المسجى في كفن ينظر وإن نفسه لتضطرم بعوامل الأسى على أن فقد أباه أحوج ما يكون إليه، فهو ما يزال طالباً في المدرسة الثانوية لم ينهل من العلم إلا صبابة لا تغني من جهل ولا تعصم من طيش. وإن قلبه ليضطرب بخلجات الفرح، فهو أصبح - في رأي نفسه - ثرياً يملك آلاف الجنيهات وعشرات الأفدنة وقصراً مشيداً وسط حديقة وارفة الظلال دانية القطوف، فغداً ينعم بالمال ويسعد بالراحة ويلذ بالحرية. وثارت فيه نوازع الأسى والراحة في وقت معاً، فانهمرت عبرات عينيه على حين كان ينضم قلبه على نشوة جارفة من الفرح، فلطالما عانى الضيق والحاجة ولطالما أمسك أبوه عنه المال شحاً منه وكزازة. ثم سكنت خواطره حين بهره بريق الذهب وهو يتألق بين يديه فيجذب روحه ويصرفه عن أن يلقي بالاً إلى من ناح أو ندب.
وخلص الفتى من عسر الدرس إلى يسر الحقل، ومن ضيق المدرسة إلى سعة الحياة، ومن ذل الاستذكار إلى خفض العيش. وأحس - على حين فجأة - بأنه انفلت من قيود أبيه الثقال فأصبح رب نفسه يطير ويقع فلا يقع إلاّ على لذة أو متعة، وأخوه الأكبر يرى بعين الرجل دفعات العبث توشك أن تعصف بأخيه فتستلبه من صحته وماله في وقت معاً. وآذاه أن يقع الفتى بين مخالب رفاق السوء يبعثرون ماله وشبابه، فأراده على أن يتزوج من ابنة خاله عسى أن ينزع عنه طيش نفسه أو أن يفزعه عن صحاب السوء.
ومضت السنون فإذا الفتى زوج وأب، غير انه لم يرتدع عن غي ولا أقلع عن سفاهة. وأنى له أن يفعل وإن الحنين إلى اللهو الوضيع ليعاوده - بين الفينة والفينة - فيطلق لنفسه العنان فيندفع - في غير وعي - إلى الخمر والقمار والنساء جميعاً، ومن حواليه من شرذمة من السفلة يزينون له حياة الفسق والفجور، فيلقي إليهم السلم في غير عقل ولا تفكير.
وطمَّت لذاذات الطيش على عقل الفتى فما أفاق من نشوته إلا ليرى يده صفراً من الذهب والفضة معاً. لقد ابتلعت أسباب العبث والطيش كل ما ورثه من مال إلا الإفدنة وقد أهملتها