تلقيت يوماً دعوة من إحدى الهيئات العلمية، ولا أدري متى جرى ذلك على وجه التحقيق. وكانت الدعوة لسماع محاضرة لغوية لبحّاثة معروف، سمعت به؛ ولكني لم أره بعد.
فذهبت، وقد تخليتُ لهذا المحاضر صورة تتفق مع موضوع محاضرته. . . رجلاً أشرف على الخمسين، بشارب مهدَّل، وعينين مجهودتين، وصوت متآكل. فما كدت أستقر في مكاني من القاعة وأرفع بصري إلى المحاضر، وقد اعتلى منصة الخطابة، وبدأ يلقي محاضرته، حتى طالعَتْني صورة أدهشتْني جد الدهشة. رأيتُني أمام فتى كله شباب وحيوية، بعينين تلمعان ذكاءً؛ له وجه صبيح، بشارب طرير مشذًب على الطريقة الفرنسية، وقوام إغريقيّ يذكِّرنا بتماثيل (براكسيتيل)!
فتشككت في الأمر؛ وحسبت أنه قد جد تغيير في المحاضرة والمحاضر، وانحنيت على زميل بجواري أتبين منه حقيقة الحال. فأكد لي أن المتكلم هو الدكتور بشر فارس نفسه!
ورحت أستمع، فإذا بالمحاضر يلقي بحثه بصوت جيل النبرات، في لهجة فصيحة، تتوضح فيها دقة في الأداء، وحسن اختيار لمواقف الجمل، وحرص على سلامة مخارج الحروف. كل ذلك في اتساق وانسجام كاتساق النغمات وانسجامها في اللحن الفني البارع!
واتسعت مسالك البحث وتشعبت، بيد أن المحاضر كان قابضاً على زمام موضوعه قبضة جبار، يديره في حنكة، إدارة الربان الماهر لباخرته وسط العباب الصاخب. . . حتى انتهي به أخيراً إلى شاطئ السلام!
منذ ذلك اليوم عرفت الدكتور بشر، وما أسرع أن توثقت صلاتي به!. . فتجلت لي فيه شخصية أخرى غير شخصية ذلك العالم المتحقق - تلك شخصية الصديق الودود المرح. فالابتسامة اللطيفة التي طالما انقلبت إلى ضحكة عابثة لا تفارق ثغره، والنكتة المصرية اللبقة تظل محلقة في سماء مجلسه. وقد يمضي في حديثه الطريف، فلا يكاد يروي لك أخباره عن باريس، ما شاهده في دور العلم بها، ما لقيه في مغاني عبثها ولهوها، حتى ينتقل بك إلى قهوة (الفيشاوي)، ومطعم (الحلوجي)، فيحدثك عن الشاي الأخضر، وصحاف