للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[هذه الثورة. . من صنعها]

للأستاذ محمد سعيد العريان

ليس الأدب بمعزل عن السياسة، وما ينبغي أن يكون عنها بمعزل؛ فإن الأدب بمعناه الرفيع، هو الذي يوجه الإنسانية المعاصرةإلى مثلها العليا، ويسددها إلى أهدافها البعيدة، ويرسم لها الطريق إلى الحياة الفاضلة التي يجب أن تكون. والسياسة بمدلولها العام هي معنى قريب من ذلك؛ لأنها - فبما يزعم أهلها - هي التي توجه الناس أو توجه حياة الناس الوجهة التي تتحقق بها مثلهم العليا ويبلغون أهدافهم البعيدة، وتمهد لهم الطريق إلى الحياة الفضلى؛ فليس الأدب والسياسة إذن في الاصطلاح الحديث إلا كلمتين تقعان على معنى واحد أو معنيين متقاربين في الوسيلة متحدين في الغاية. وقد مضى العصر الذي كان يقال فيه لبعض المشتغلين بالأدب، أو لبعض المشتغلين بالسياسة: هذا من الأدب وهذا ليس منه. فقد كان ذلك في زمن لم يكن الأدب فيه إلا فناً من فنون القول لا من فنون التوجيه. أما اليوم فان الأدب هو الذي يوجه الساسة قبل أن يوجه الجماهير؛ لأنه يصنع للساسة برامجهم التي يقودون باسمها الجماهير. . .

تلك حقيقة مؤكدةلا سبيل إلى نقضها، وفي السياسة العربية المعاصرة آلف دليل عليها؛ فقد تغني أدباؤهم بالحرية قبل أن يهب في البلاد العربية كلها زعيم واحد للدفاع عن الحرية، فلما صار غناهم بالحرية وجداناً يتجاوب في ضمائر الجماهير، أوجد ذلك الوجدان زعماء الدعوة إلى الحرية.

وقد تغني أدباؤهم بالوحدة العربية قبل أن يجرؤ زعيم عربي واحد أو يخطر على باله أن يدعو لوحدة عربية؛ فلما جرت أغنيتهم بالوحدة مجرى الدم في نفس كل عربي بين ساحل الأطلسي وجبال الكرد، نشأ الزعيم، أو نشأ الزعماء الذين يدعون إلى وحدة عربية.

وكانت الدعوة إلى المساواة وإلى رعاية حق الفقراء في ثروات الأغنياء، هتافاً أدبياً ينظمه الشعراء ويتحدث عنه الأدباء ويقصه أهل القصة، قبل أن يكون مذهباً سياسياً يتمثل في قوانين ولوائح وبرامج أجزاب سياسية.

وما تزال على ألسنة الأدباء وعلى أطراف أقلامهم، دعوات إنسانية أخرى، لم تتبلور بعد معانيها أو تتخذ مدلولاتها لتخرج من نطاق الشعر والقصة والمقال المكتوبة والأغنية

<<  <  ج:
ص:  >  >>