كنت عزمت على أن أنتقل من الشعر التركي الحديث إلى موضوع آخر من الشعر الشرقي، ولكنني حينما عدت إلى حلوان في آخر الشهر الماضي وجدت الصديق الفاضل محمد عاكف بك قد فرغ من نظم قصيدة طويلة من روائع شعره يتجلى فيها بعض ما يحسه عظماء الشرق، من الآلام والأحزان في أيامنا الحاضرة، فاستحسنت أن اجعلها ختاماً للكلام عن الشعر التركي وكان من توفيق الله أن ظفرنا بمثل هذه الخاتمة.
الفنان
قصة، سمعتها منذ ثلاث سنين فلعل لها سامعاً واعياً.
. . . . فصَل القطار من بوستون بعد الزوال بخمس دقائق. وتفرق المودعون، وآوى إلى المقاصير المسافرون. فها أنا مستبدٌّ بهذه المقصورة الثمانية وقد أمكنت الراحة فما يمنعني أن استلقي فأريح فكري وجسدي. لتدر السماء والأفق والأرض وجداً فلست أبالي ما استقرت بي هذه الزاوية.
لله أي أشجار من الزمرد!. . وأي لجج من المروج!. . أزهور هذه أم قصور؟. . ما هذه القرى في حلل المدن وأبهتها؟. . ما أجمل الطريق وما أبهر مناظرها!. . . وما أكثر هذه المصانع!. . . .
أخذتني سنة فانمحت هذه الخاطرات كلها. وبينما أطفو وأرسب في آفاق النوم إذا أنا مشارك في مقصورتي: وإذا كوكب في ميعة الصبا قد طلع أمامي. كلما طمح البصر إليها أزاغه لألاؤها فخر ساجدا على قدميها. وإلى جانبها (ولا ريب انه حبيبها) رجل نجيب، محبب إلى الرائي، طويل القامة، رزين، مهيب، تشهد كل أسارير وجهه أنه فنان.
أشفقت أن أروع هذين القمريين، فعلقت أنفاسي ولبثت قابعا في زاويتي. ثم شرعت أرقبها إذ لم أر حاجة إلى هذا الإشفاق: أما الفتاة فكانت عيناها الذاهلتان مستغرقتين في حبيبها