حتى لتحسب أن لو انقضَّت أجرام السماء لم تفق ولم تشعر. وأما العاشق (وقد غشى الحزن أسارير جبهته الوقور) فقد غابت نظراته العميقة في اجواز الفضاء البعيدة. كيف يحسَّ ظلَّ وجودك وهو يرمي الغيوب بعينيه وبجانبه ليلاه، وأمامه صورة المستقبل الذي طمحت إليه عيناه؟ فانس نفسك ثم انظر ماذا تقول الفتاة:
أيها الأمير! أرأيت ثلاث القطع الأخيرة؟ إنها لساحرة جدّ ساحرة. ما أصاخ المسرح في حياته إلى مثل هذه البدائع، أرأيت شمس الصيف حين تطعن بأشعتها في السحب فتحرق السماوات نيران البروق الخاطفة؟ كذلك كانت أصابعك التي لم تضرب، بل أحرقت العود النائح تحت خطوات الضياء! لو علمت كيف أنَّت تلك الصدور التي كانت أمامك! ربّ! ماذا كانت هذه النوَّحات الداخنة لحناً بعد لحن كما تدمى وتحترق مئات من قلوب البلابل وأنت تصب شآبيب اللهب على الأوتار كلها جملة واحدة! إن هذا النفس المنبعث إلينا من قلب الصحراء المحترق (هذا الخطاب الذي يحشر الأجيال كأنه نفخة الصور هو أوّل ما سمعه غربنا المدنيِّ، علم الله لقد كنت، وصواعق المضراب تتساقط، أتمثل سراب الماضي، ماضي مصر والعراق، وإيران والحجاز، واليمن وغزنة وبخارى، والسند والهند) كنت أتمثل هذا السراب صاعداً من كل خربة دخاناً بعد دخان!
- ولكن كيف يحتمل عجزي هذه الكلمات؟ إني لأخجل أن أشكرك.
- ماذا تقول؟ إن للتواضع حداً فاعرف قدرك.
- أنا لا أعرف إلاّ قدري:
كلا كلا! حتَّام تخفي نبوغك؟ ألم تر إلى الذين استمعوا لعزفك اليوم؟ وهم شياطين الصناعة في هذا العصر بلا ريب ألم ترهم جميعاً قد أحنوا رءوسهم إكبارا وإعجابا. ولا سيما مشاركة غودسكي في عصفات التصفيق الثائرة بين الحين والحين، وتهنئته إياك وقوله:(أيها الأمير! لا أدري أين نظير هذا الاعجاز، ما أبهر عزفك! أني بك جد مفتون، وإنك اليوم فوق كل ثناء) إنها كلمات أخذت أنفاس الحاضرين.
- لأنه يحب الفقير.
- كلا. إن هذه الديار، ما لم تغير شعارها، لا تحب الفقير أبدا، وإنما تحب الدولار، ولست أعرف ديارك، ولعلها على غير هذا.