للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[من الأدب التحليلي]

أنا. . .

للأستاذ علي الطنطاوي

- ١ -

. . . . . . قال لي أهلي: لقد جئت إلى هذه الدنيا عاريا بلا أسنان، لا تحسن النطق، ولا تعرف شيئاً. . . فضحكت ولم أصدق. فأعادوا ذلك علي وألقوه كأنه قضية مسلمة وأمر واضح لا يحتمل الشك، وعجبوا مني حين أكذبه وأرده. . . ولكني بقيت على رأيي الأول، لم استطع مطلقاً أن أصدق ما يقولون، لأني أعرف بنفسي منهم، ولأني أذكر ماضي كله: أذكر أنني فتحت عيني ذات يوم فجأة ونظرت. . . فوجدت نفسي، ورأيت أن لي أسناناً وعلي ثياباً، وبي قدرة على المشي والنطق، ورأيتني شخصاً مستقلا عن أبي وأمي وسائر أهلي، أحب أشياء لا يحبها أحد منهم، وأكره أشياء لا يكرهونها، ولا يميزني منهم إلا إني كالطبعة المختصرة من الكتاب، فيها كل الأبواب والفصول بيد أنها موجزة و. . . بالقطع الصغير). . .

أفيعقل أن أكون موجوداً قبل ذلك اليوم، وأنا لا اعرف نفسي؟

مستحيل!

وأستقر في ذهني من يومئذ، أولدت وأنا في الرابعة من عمري!!

- ٢ -

وصرت أرى هذا الطفل دائما، أبصر صورته في المرآة وأسمع صوته بإذني، وأصغي إلى حديث أمي عنه بشغف وسرور، فكنت أشعر بميل غريب إليه، حتى إني لأعترف الآن بأنه كان أحب إلي من أمي، التي لم أكن أعدل بها أحداً ولا اقبل كنوز الأرض بدلا من امتصاص ثديها والنوم على صدرها. . .

ذلك الطفل الباسم، ذو العينين السوداوين، والشعر. . . يا للأسف! إني لا أستطيع أن أتخيل شعره، لقد محيت صورته من ذاكرتي، لقد اختفى من الدنيا منذ ربع قرن، لقد ذهب إلى حيث لا أدري؟ فهل كنت أنا ذلك الطفل؟ هل تجيء يده الصغيرة الغضة في يدي الخشنة

<<  <  ج:
ص:  >  >>