ليس الأدب إلا التعبير القوي الصادق عن مشاعر المرء وخواطره
وأخيلته، وهذه تتأثر بأحوال العيش وأنواع العقائد وأطوار المجتمع
وأنظمة الملك وتقلبات السياسة، ومن المفيد الإلمام بهذه العوامل المؤثرة
في الأدب لتكون دستور المؤرخ وشريعة الأديب ونبراس الباحث فيما
يصدر عن الإنسان من كد الأذهان وفيض القرائح.
فمن هذه العوامل (طبيعة الإقليم ومناخ البلد) وأثرهما في حياة الناس وسلائل الأجناس معلوم في بدائه العقول. فأحوال الإقليم هي التي تنهج لساكنيه سنن معاشهم ونظام اجتماعهم. وتكون الكثير الغالب من أخلاقهم وطباعهم، ومناظره هي التي تربي ذوق أبنائه، وتغذي كتابه وشعراءه، فالشعر الجاهلي مثلاً صورة صادقة لطبيعة البادية وحياة البدو: فألفاظه خشنة كالجبل، ومعانيه وحشية كالأوابد، وأساليبه متشابهة كالصخر، وأخيلته مجدبة كالقفر، ولن تجد في غير الجزيرة العربية أمثال الشنفري وتأبط شراً والسليك بن السلكة من هؤلاء الشعراء الصعاليك الذين تغنوا بحياة البادية ومناظرها وأباعرها وغزلانها وكثبانها وأطلالها وجبالها بشعر متين الحبك صادق الوصف جاف اللفظ عنجهي الخيال. وقد أختلف الشعر في شبه الجزيرة نفسها باختلاف الأماكن: فهو في نجد غيره في الحجاز، وهو في أهل الوبر غيره في أهل المدر. ولهذا العامل وحده نعزو انقراض الأراجيز وهي أقدم الأطوار لشعر البادية حين إرتحل ناظموها من الصحارى المجدبة إلى سواد العراق وريفه. وفي حواشي العراق وظلاله، وخمائل نجد وجباله، أخضر عود الشعر واستقام وزن القصيد ومن ثم قال القدماء أن امرأ القيس ومهلهل بن ربيعة وعمرو بن قميئة هم أول من قال الشعر وأطال القصائد، وما كانوا في الواقع إلا زعماء النهضة الأدبية في هذه البلاد.
وظل عامل الطبيعة يفعل فعله في الأدب خلال القرون، فخالف بين الشعر في عواصم الشرق وبينه في الأندلس فقد وجد