للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[في الأدب الشرقي]

من الشعر التركي

للشاعر المرحوم إسماعيل صفا

ترجمة الدكتور عبد الوهاب عزام

(١) الشيخ البائس

احدودبت قامته، وارتعدت رجله ويده، وشحب لونه، وترنحت خطواته، ونمت أسرة وجهه عن فجائع حياته.

أن تنعم النظر في عينيه البارقتين، ومحياه الواضح، ولحيته البيضاء، تتبين انه طوف في الصحارى والبحار، وتهادته المدائن والقفار، وما جبينه المشرق إلا كتاب مفعم بالخطوب.

وقد غشى وجهه اشمئزاز من الحياة، وبرم بها، فالعالم أمامه مقبرة مكررة.

وتقرا في وجهه انه نضو حانات، شرب صفوها وكدرها، وتجرع ألوانا من سمومها.

رأيته لأول مرة، فقلت: ليت شعري من الرجل؟ ولست ادري لماذا زدت على الأيام شغفا بمعرفته، وكلفا بأستكناه أمره، انه يمر بداري كثيرا، فهو لا ريب أحد جيرتي، ولكن من هذا الشيخ البائس المحبوب الطلعة؟

كم لقيته شريدا تتقاذفه الطرقات، وتعثر به الخطوات، قد تأبط زجاجته، وقطب أسرته، فليت شعري من هو، وماذا يضطرب في ضميره؟

ذهبت يوما إلى أيوب، إلى غابة السرو المترعة بالأحجار وغصت في لجج من الفكر ما لها من قرار، ألست أرى الشيخ السكير؟ نعم انه هو. قد استند إلى شجرة من السرو وضرب بيده على لحيته مفكرا حزينا. وأمامه صفائح عتيقة قد استغرقت نظراته، واستبدت بأفكاره.

مشيت إليه على هينة حذراً، وقرأت ما كتب على القبر فعرفت حال الرجل ورثيت له، وجاشت في نفسي ثورة من الحزن والغم، وكان الذي قرأته هذه الأبيات:

(وا حسرتاه! إن صرصر الأجل العاتية، قد ذهبت بشجرة الأمل الناضرة، وقد مشى الموت الجبار على زهرة حياتي، فما الدنيا من بعد إلا مأتم، وما فرحي وعيدي إلا الحزن والغمّ).

<<  <  ج:
ص:  >  >>