للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[الوضع اللغوي وهل للمحدثين حق فيه؟]

يذكرني موضوع الوضع وهل للمحدثين حق فيه بطائفة من البديهيات كان المعلمون الطيبون يكلفون بها تلاميذهم، كفضائل العلم، ومحاسن الأدب، وفوائد الثياب، فيكتبها التلاميذ على أنها واجب يؤدى، ويقرأها المعلمون على أنها جمل تصحح. والواقع أني سألت نفسي حين اقترح علي هذا الموضوع: ما الفرق بين سؤالنا هل للمحدثين حق في الوضع وسؤالنا: من الذي يملك على التراث حق الانتفاع به وحق التصرف فيه؟ الميت الذي ورَّث ثم غاص في أعماق العدم، أم الحي الذي ورث ولا يزال يضطرب في آفاق الوجود؟ أو سؤالنا: من الذي يملك أن يزيد في اللغة أو يهذب منها وهي وسيلة الفهم والإفهام؟ اللسان الذي سكت وبلى وانقطعت أسبابه بالحياة، أم اللسان الذي لا يزال يتحرك ويلغو ليسمي كل وليد تضعه القريحة، ويعبر عن كل جديد تخلقه الحضارة؟

أليست الأجوبة عن هذه الأسئلة هي من نوع ذلك الكلام الذي كان يمتحن به عبقريات الأطفال في سنيهم الأولى؟

إذن ما الذي سوغ أن يكون مثل هذا الموضوع من الموضوعات التي أقرها المجمع لتلقى في المؤتمر؟ سوغه أن الحق في الوضع اللغوي على وضوح الرأي فيه، كان عقبة من العقبات التي أقامها المجمع لنفسه بنفسه وذلك إن المجمع وهو وحده السلطة التشريعية العليا للغة العربية يستطيع في حدود قواعدها الموضوعة وقوالبها الموروثة أن يزيد عليها وينقص منها ويغير فيها، ولكنه يعطل مختاراً هذه القدرة التي لم يؤتها غيره باستشارته القدماء في كل إصلاح لغوي يقترحه، وفي كل قرار نحوي يقره. واستشارة الماضين في شؤون الباقين مع تبدل الأحوال وتغير الأوضاع وتقدم العلوم وتفاوت العقول واختلاف المقاييس، تكون في أكثر الأحيان معطلة أو مضللة. فلو أن معالي رئيس المجمع استشارهم مثلاً فيما ينقل من كتب أر سطو لقال له ابن فارس وهو من رجال القرن الرابع: (زعم الناس أن علو ما كانت في القرون الأوائل والزمن المتقادم، وأنها درست وجددت منذ زمان قريب، وترجمت وأصبحت منقولة من لغة إلى لغة؛ وليس ما قالوا ببعيد، وإن كانت تلك العلوم بحمد الله وحسن توفيقه مرفوضة عندنا).

ولو أن معالي وزير المعارف استشارهم مثلاً في البعثات التي يبعث بها في طلب العلم إلى أوربا وأمريكا لقال له الشيخ محمد عليش مفتي المالكية في أواخر القرن الثالث عشر في

<<  <  ج:
ص:  >  >>