كان ذلك في طنطا منذ ست سنين، وكنا جماعة من مدرسي اللغة العربية قد جمعْتنا على الوداد أواصر لا تنفصم، فما نفترق إلا على ميعاد. وكان لنا من دار صديقنا أمين. . . ندوة نختلف إليها في مواعيد رتيبة، نقرأ ونتزود ونناقش الجديد من مسائل العلم والأدب، لا يكاد يفوتنا شئ مما تخرج المكتبة العربية؛ فإذا التقينا فثمة مذاكرة أو مناظرة أو رأى جديد؛ وإذا افترقنا فلكي يخلو كلُّ منا إلى نفسه وقتاً يتهيأ فيه لموضوع يطرحه على الجماعة في الاجتماع التالي؛ وما كانت الفترة بين الاجتماعين تزيد على يومين اثنين. . .
كنا نعيش عيش الرهابين قد فرغوا من الدنيا واخلصوا أنفسهم لما هم فيه؛ فما لهم من دنياهم إلا التسبيح والعبادة، وما لشيء عليهم من سلطان إلا ما اختاروا لأنفسهم!
وجاء (شم النسيم) فقال قائل منا: (أين تقترحون أن نقضي ذلك اليوم؟)
وما اختلفنا على الرأي، فما كان يعنينا أين نقضي يومنا، إذ كان كل ما يعنينا أن نكون معاً نعمل ما نعمل على النهج الذي فرضناه على أنفسنا منذ تعارفْنا: أي نقرأ ونتذاكر!
واجتمع رأينا على أن نخرج في ذلك اليوم إلى ضاحية قريبة من المدينة لا أسميها، حيث نقضي يومنا هناك في مصلَّى كبير يعرفه بعض أصحابنا على حافة ترعة من تلك الضاحية. . .
والتقينا على موعد قبيل الشروق وما أفطرنا بعد، فاتخذنا طريقنا بين الحقول الناضرة إلى حيث نريد، يحمل كل منا في يده أو تحت إبطه ما يقدر عليه من طعام وفاكهة وحلوى، ومن دفاتر يقدّر أن سيقرأ منها ما يقرأ في ظل شجرة الصفصاف الحانية على ذلك المصلى. . . ولم يغب عنا تدبير الماء الرائق، فحملنا ما يكفينا في زجاجات بأيدينا. ولم يتخلف عن الجماعة في ذلك اليوم إلا صديقنا الذي اختار لنا هذه الرحلة، لأنه آثر أن يساف لزيارة خطيبته في القاهرة، وقد أراد الله لنا وأراد له. . .
سارت الجماعة اثنين اثنين، وثلاثة ثلاثة، نتجاذب أطراف الحديث في صفاء وانشراح؛ لا يكاد يخطر في بالنا شيء إلا ما يجرى على ألسنتنا من فكاهة أو حديث مرتجل. . .