وخلّفنا المدينة وراءنا، فما تقع عيوننا إلا على زرع وماء، وقطرات الندى تلمع على أوراق البرسيم صافية تترقرق، وأشعة الصبح تداعب عِشاش الطيور في أعالي الشجر، والنسيم الرقراق يهمس في آذاننا بشرى ميلاد يوم جديد من أيام الربيع الضاحك!
واستخفنا الطرب؛ فأخذنا نمزج لاهين عابثين، وتخفَّفْنا من بعض ما كنا نحمل على كواهلنا من وقار، وانبعثت فينا روح جديدة لم يكن لنا بها عهد في أنفسنا قبْل، فإذا نحن ناس كالناس حين تصفو لهم الحياة ويعتدل الجو. . .
ومددت نظري إلى بعيد، فإذا المرحوم الرافعي على مدَّ البصر يمشي على حافة قناة بين زرعين يتنسم نسيم الصباح، شأنه كل يوم. قلت لصحابتي:(وهذا رفيق مؤنس!) ثم أقبلت عليه أسأله أن يرافقنا؛ فقال:(وددت ولكن في غير هذا اليوم. . . أسأل الله لكم العافية!)
ومضينا على وجهنا نمزح ونضحك لا يعنينا من أمر شيء؛ وأغفلْنا ما كنا نلتزم من تزُّمت الشيوخ ووقار المعلمين؛ وكان صديقنا (م) أسرعَنا إلى التخفُّف من وقاره على أنه أكبرنا سنَّا؛ فلما ثقل عليه ما يحمل من طعام وماء وكتاب، خلع المعطف الأبيض عن كتفيه، فبسطه على الأرض، فألقى عليه ما كان يحمل، فَصَرَّه فيه وحمله على كاهله. وراقتْ فكرتُه زميلاً منا، فألقى إليه بما كان يحمل كذلك، وتعاوَنا على حمل المعطف من طرفيه وعليه ما عليه كما يبسط بساط الرحمة في جنائز بعض الموتى. . .
. . . ورأينا باباً جديداً إلى المزاح، فألقى كل منا في المعطف بما كان يحمل، وتركنا لزميلينا أن يحملا وحدهما ما كنا نحمل جميعاً، لنفرغ إلى المزاح والسخرية والضحك!
ودنونا من المكان الذي نريد؛ وبدت لنا القرية على مقربة؛ فمررنا بنسوة يملأن جراتهن من الترعة على مورد قريب من المصلى الذي نهدف إليه؛ فما كدن يريننا حتى استهواهن المنظر، فقذفن إلينا بعض نكات مازحات في مرح، أو عابثات في دلال!
أما طائفةٌ منا فعادَهم وقار المعلمين وتزُّمت الشيوخ، فطأطئوا رؤوسهم يهرولون في خجل إلى حيث يريدون؛ وأما طائفةٌ فأجابت نكتة بنكتة ونادرة بنادرة. . .
وبلغنا المصلى وتركنا النساء حيث كنّ. . . وخلعنا أحذيتنا، وتخفَّفنا من بعض ثيابنا، واتخذنا من أغصان شجرة الصفصاف مشجباً نعلق عليه من طرابيشنا ومن ثيابنا؛ وافترشنا الأرض وبسطنا السفرة نأكل. .