في فاتحة الصيف جلسنا عند سفح الهرم نستمع إلى آخر أناشيد باريس عاصمة فرنسا، التي يقول عنها أبناؤها إن كل شيء فيها ينتهي بأغنية، والتي يُزلفها (كوت) إلى الهاوية في سرعة الطائرات التي يبعث بها إلى مدريد، والتي يسوقها (توريز دجوهر) إلى جهنم الحمراء: أي إلى الشيوعية، فأدار لنا (الأستاذ) تلك الأنشودة البديعة الواردة أخيراً:
كل شيء بخير: سيدتي المركيزة: المتاع سرق
وكل شيء بخير: سيدتي المركيزة: والقصر يحترق
وكل شيء بخير: سيدتي المركيزة
استمعنا، واستمعنا! ثم نسينا - طبعاً - ورجعنا؛ حتى إذا كنت في أوائل الشهر الماضي برأس البر طفرت تلك الأغنية إلى ذهني وإلى فمي فطفقت أرددها، في المساء وفي الصباح، وعلى الشط وفي السامر.
نحن الآن في مجلس خاص، في الكازينو، على قيد أمتار من اللسان، حيث العذب الفرات والملح الأجاج يلتقيان؛ وهؤلاء أكبر الأساتذة في أقدم جامعة في العالم، وفي أحدث جامعة في العالم، أخذوا في خلوتهم البديعة بأطراف الأحاديث، وسالت تلك القرائح السامية بخواطر عالية في الحضارة والاجتماع.
الأستاذ الكبير - في جامعتنا المصرية - يعالج ترجمة فصحى لكلمة (المودة) ويعرض على الفقيهين الكبيرين كلمة بديعة بارعة، فتأخذهما النشوة ويطربان؛ والأستاذ يقص علينا حديث رحلته الأخيرة إلى الشام، تلك الأمة المجاهدة في الحرية، المجاهدة في الأدب، المجاهدة في الاقتصاد. . . وبنوها الذين ضربوا لنا الأمثال في كل ضرب! الذين حدثوه عن مصر بما لا يعرفه أبناء مصر!. . . لقد كان أروع ما راعه في ذلك القطر الشقيق أنه لم يجد فوارق بين الطبقات؛ وعلة ذلك عنده أن العروبة أعمق أصولاً عند إخواننا، وأن العروبة معناها النخوة والمساواة؛ وعلته أيضاً أن التفاوت في المرتبات ليس هائلاً؛ وأخيراً أن ليس ثمة أسرات تضرب في مظاهر الأبهة كأنها تضرب برَوقين في السماء. . .
أما هنا - وانحدر الحديث إلى من هنا. قال قائل: هنا تجد ستة عشر مليوناً ولا تجد ستة