من طبيعة الأدب شعره ونثره أنه سهل الدخول إلى النفس في يسرولين لا عنف ولا مشقة. وأن النفس تقبل عليه بدافع منها، راضية عنه مقبلة عليه مستأنسة إليه.
أما الفلسفة فلا يقبل عليها من الناس إلا من رزُق الصبر عليها والأنس بها. وقلما كانت الفلسفة أنيسة إلى النفوس لأنها كالسباع من الحيوان لا يقدم عليها إلا من رزق القدرة على ترويضها وتأليفها.
والفلاسفة والمشتغلون بالفلسفة مسئولون عن هذا النفور الذي يعانيه الجمهور من القراء. ولا أدري ماذا كانت حجتهم في الأبهام وعذرهم في التعمية. وهل فعلوا ذلك عن قصد حتى تبقى للفلسفة رهبة الغموض وهيبة الخفاء؛ وحتى يكون لهم مفتاح الأسرار والاستئثار بالأستار، أم جاءهم ذلك الغموض من طبيعة الفلسفة نفسها لأنها تبحث وراء (المجهول)(وما بعد الطبيعة) وما إليهما مما أبديء الكلام فيه وأعيد ولا يزال المجهول مجهولا؟
والحق أن كثيراً من موضوعات الفلسفة - وخاصة عند المسلمين لا يفيد القارئ أكثر مما يتعب ذهنه ويحير عقله - كالكلام في النفس ووحدتها وبقائها؛ وكالكلام في الكون وهل هو حادث أم قديم، وكالكلام في معرفة الله للجزئيات أو الكليات، وكالكلام في البعث وهل هو لأجسام الدنيا بأعيانها أم بأمثالها.
وقد ظل الفلاسفة يبحثون في هذا وأشباهه فما أراحونا ولا أراحوا أنفسهم، ولا أزاحوا الستار عما تتحرق نفوسنا إلى معرفته وتتطلع إلى كشفه. حتى لقد مات الرازي وهو لا يدري إلى أين. . . وعبر عن ذلك بقوله في بيتين يعبران عن سؤال كل نفس من عهد آدم إلى أن يشاء الله، وهما:
لعمري ما ادري وقد آذن البلى ... بعاجل ترحال إلى أين ترحالي
وأين محل الروح بعد خروجها ... من الهيكل المنحل والجسد البالي
ولقد أراح - والله - خطيب أياد وحكيمها (ابن ساعدة) نفسه حينما قال قبل الإسلام: