آما وقد خطت (الرسالة) هذه الخطى الرغيبة الموفقة، وبلغت المبالغ في الفخامة والضخامة والطرافة والإحسان، والحشد والاحتفال، والعناية بالدراسات الدبية الممتعة الموفقة، والترحيب بكل ما يقدم إليها من الموضوعات القيمة الفائقة، فلماذا لا أُلقي دَلوي أنا الآخر في الدلاء، وانشر في (الرسالة) من الآن شيئاً مما تنطوي عليه أضابيري الأندلسية الزاخرة بشتى الموضوعات في هذا الفردوس الإسلامي المفقود - كما كان يسميه فقيد العروبة صديقنا المرحوم احمد زكي باشا - فمن ترجمة أديب إلى قصة شاعر إلى تاريخ فيلسوف إلى حياة علام إلى طرفة أدبية إلى نبذة فلسفية إلى تحفة علمية إلى شطحة صوفية، إلى ما شئت مما تهيأ لي أن اكف على دراسته منذ نيف وثلاثين عاماً حتى صرتُ أطول له عِشرة، وأبطن به خِبرة. . . ولا تسلني لماذا تولعت هذا التولع بدراسة الأندلس وكل ما يمت إلى الأندلس بسبب، فذلك ما اجهل أنا أيضاً علته. . وقد جفت الأقلام وطويت الصحف وقضى الله أن أكون ممن شغفه حباً هذا الفردوس الذي إذا أنت حاولت أن تنزه نفسك بين رياضه النضرة المهرة المثمرة، تجتلي أنوارها، وتجتني من أَمَمٍ أثمارها، وتستمع إلى تغريد بلابلها، وتتروّى من رحيق جداولها، ألفيت ما ينبعث له عجبك وإعجابك، وتشتهي مذاقه حتى يسيل له لعابك، ويتأرجح عبيرهُ المفعَّم فيملأ خياشيمه طيباً، ويستخفّك تغريده المغم فتترنح له تطريباً؛ بيد أنك إذا أنت حاولت هذا الإمتاع من طريق الأسفار التي وضعت في الأندلس قديماً للقيتَ من الألاقى ما لقيت مما لا يكاد ينهض به إلا الأفراد أوتوا من الشوق ما يجلدهم على معاناة البحث والتنقيب والارتياض بتذليل كل صعب عسير. ومن ثم استخلصت لك من نادرة الأسفار، ومغرِّبة الأخبار، باقة جمعت مختلف الأزهار، وسفطاً يحتوي شتى الأثمار، وحاكياً يسمعك احسنَ النغم، وناجوداً تحتسى منه شراباً لا إثم فيه ولا لمم.